، فإن القلب أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً.. كلمات قالها عبد الله بن رواحة لأبى الدرداء رضي الله عنهما، وتشابهت مع ما قاله معاذ بن جبل لصاحبه وهو يذكره: (اجلس بنا نؤمن ساعة). فإذا رأيت من صرعه عشق العاجلة، وأماته حب الفانية، أو قال لك قائل، عظني أو ذكرني أو انصحني فقل له: (هيا بنا نؤمن ساعة)، وقل لنفسك: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}.. (طه: 84)، وبادر وسارع بها، هذا شأنك مع من يغرق أو يجود بأنفاسه الأخيرة، تحاول إسعافه وترسل له طوق النجاة لإنقاذه، وحياة القلوب والأرواح آكد وأهم. كان البعض يقول: (عجباً لمن يبكى على من مات جسده ولا يبكى على من مات قلبه وهو أشد). فاصنع كما صنع صاحب يس، وهو الذي سماه الله رجلا وما أقلهم - أتى من أقصى المدينة يسعى قال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.. (يس : 20-21)، فلما أخذوه وعاجلوه بالقتل نصحهم ميتاً كما نصحهم حياً، قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}.. (يس : 26-27). فما الذي يمنعك من أن تذكر بآية بينة، أو سنة هادية أو قصة هادفة، وقد تكون هذه الساعة هي ساعة قيامتك، أو ساعة رحيل وانتقال من تذكر فتلقى ربك على عمل صالح وتكون بذلك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت لإخوانك وأمتك، وأعذرت نفسك بين يدي ربك بالبلاغ وعساها توافق ساعة إجابة، والدال على خير كفاعله، ولأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، وحسبك أن تقوم مقام الدعوة وتستن بسنن الأنبياء والمرسلين {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}... (الأنعام: 90). فاحذر من إضاعة الحقوق، ولا تبخل بهذه الساعة، فإن الله أحق أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وأنت ممن يحب أن يطاع الله في الأرض، وأن يكثر عدد المطيعين، ولو قرض لحمك بالمقاريض ونشرت بالمناشير، فابذلها ولا تبالي سواء كانت بالليل أو بالنهار، فلك في نبي الله نوح أسوة حسنة {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}. اتهم نفسك فإذا وجدت نفوراً أو إعراضاً فاتهم نفسك أولاً قبل أن تتهم الخلائق، وقل: لعلى لم أخاطب الناس على قدر عقولهم، وربما أضفت لشبهاتهم شبهات، وأكون بذلك قد أعنت الشياطين على نفوسهم، ولم أعنهم على طاعة الله، ولعل هذه الساعة لم تكن خالصة لوجه الله، ولذلك لم يحدث القبول، فاجمع قلبك على لسانك، وتوجه لخالق الأرض والسموات بالدعاء، وانتقل من هذه الساعة إلى ساعة أخرى أفضل، واجعل حياتك وقفات على طريق الاستقامة، فأنفاسك تعد، ورحالك تشد، وعاريتك ترد، والتراب من بعد ذلك ينتظر الخد، وعلى أثر من سلف يمشى من خلف، وما عقبى الباقي غير اللحاق بالماضي، وما ثم إلا أمل مكذوب وأجل مكتوب {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.. (الجمعة : 8). أيها الغادي: قف ساعة وتفكر من أنت؟ وإلى أين المصير؟ أراحل أنت أم مقيم؟ وإذا كنت مرتحلاً فإلى أين؟ أإلى جنة أم إلى نار؟ فالحياة بغير الله سراب {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}... (النور : 39).. ساعة نقيم فيها واجب العبودية، فلهذا خلقنا، ونعيش فيها طاعة الوقت، ولا بورك في الأعمار والأنفاس إن لم تكن الحياة طاعة وعبودية لله، ساعة لن تخيب ولن تضيع بها، فما خاب ولا ضاع من تعامل مع الله.. كان شداد بن أوس يقول: (إذا رأيت الرجل يعمل بطاعة الله فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيت الرجل يعمل بمعصية الله، فاعلم أن لها عنده أخوات، فإن الطاعة تدل على أختها وإن المعصية تدل على أختها {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.. درر من كلام السلف ومن هذه الكلمات الطيبات ما رواه الأحنف ين قيس قال: قال لي عمر بن الخطاب: يا أحنف، من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه. وقال عمر وهو يعظ رجلاً: لا تكلَّم فيما لا يعنيك، واعرف عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا تمشِ مع الفاجر فيعلمك من فجوره، ولا تطلعه على سرك، ولا تشاور في أمرك إلا الذين يخشون الله عز وجل. وعن على - رضى الله عنه - قال: (ألا إن الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص لهم في معاصي الله، ولا تدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها). وقال يوماً: أما بعد: (فإن المرء يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، ويسره درك ما لم يكن ليفوته، فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تكثرن به فرحاً، وما فاتك منها فلا تأس عليه حزناً، وليكن همك فيما بعد الموت). وكان ابن مسعود إذا قعد يذكر يقول: (إنكم في ممر من الليل والنهار، في آجال منقوصة وأعمال محفوظة، والموت يأتى بغتة، فمن زرع خيراً فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع، لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، فمن أعطى خيراً فالله أعطاه، ومن وقى شراً فالله وقاه، المتقون سادة والفقهاء قادة، ومجالسهم زيادة). وقال: (من اليقين أن لا ترضى الناس بسخط الله، ولا تحمدن أحداً على رزق الله، ولا تلومن أحداً على ما لم يؤتك الله، فإن رزق الله لا يسوقه حرص الحريص، ولا يرده كره الكاره، وإن الله بقسطه وحكمه وعلمه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط). وعن سلمان الفارسي قال: (ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه لا يدرى أساخط رب العالمين عليه أم راضٍ عنه؟!، وثلاث أحزنتني حتى أبكتني: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع، والوقوف بين يدي ربى عز وجل ولا أدرى إلى جنة أو إلى نار. وعن سفيان الثوري قال: قام أبو ذر الغفاري عند الكعبة فقال: يا أيها الناس، أنا جندب الغفاري، هلموا إلى الأخ الناصح الشفيق، فاكتنفه الناس، فقال: أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفراً أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه؟ قالوا بلى، قال: فإن سفر طريق القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا ما يصلحكم. قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديد حره ليوم النشور، وصلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها، أو كلمة شر تسكت عنها لوقوف يوم عظيم، تصدق بمالك لعلك تنجو من عسيرها.. اجعل الدنيا مجلسين: مجلساً في طلب الحلال، ومجلساً في طلب الآخرة، الثالث يضرك ولا ينفعك فلا ترده، اجعل المال درهمين: درهماً تنفقه على عيالك من حله، ودرهماً تقدمه لآخرتك، الثالث يضرك ولا ينفعك لا ترده، ثم نادى بأعلى صوته: يا أيها الناس، قد قتلكم حرص لا تدركونه أبداً. وقد تحتاج لمخاطبة الناس على قدر عقولهم، ولتبسيط الوعظ القديم فافعل كما فعل بشر الحافي، قال: إن في هذه الدار نملة تجمع الحب لتأكله في الشتاء، فبينما هي في يوم إذ أخذت بفمها حبة، وجاءها عصفور، فأخذها هي والحبة فلا ما جمعت أكلت ولا ما أملت نالت. أنت على الدرب تسير، ودعوتك وتذكيرك بالسلوك أبلغ من تذكيرك بالقول فإن وفقت وسددت فقل: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).