* نسبه وقبيلته هو الأحنف بن قيس بن معاوية بن حصين التميمي السعدي، أبو بحر البصري، والأحنف لقب، وإسمه الضحاك و قيل: صخر ابن أخي صعصعة، ولقب بالأحنف لحنف كان برجله، وعده أصحاب السير من الطبقة الثانية من كبار التابعين، وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل البصرة، وقال: كان ثقة مأمونا قليل الحديث. وهو من أهل البصرة وقدم إلى المدينة في عهد عمر بن الخطاب، ورحل إلى مرو وهراة ونيسابور فاتحًا ومات بالكوفة في ولاية مصعب بن الزبير. * إسلامه ودعاء رسول الله له أسلم الأحنف بن قيس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره، إلا أن الرسول دعا له، يقول الأحنف بن قيس: بينا أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان بن عفان إذ جاء رجل من بني ليث فأخذ بيدي فقال: ألا أبشرك؟ فقلت: بلى قال: هل تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومك بني سعد؟ فجعلت أعرض عليهم الإسلام وأدعوهم إليه، فقلت أنت: إنه ليدعوكم إلى خير، وما حسن إلا حسنًا، فبلغت ذلك إلى رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إغفر للأحنف). فقال الأحنف: هذا من أرجى عملي عندي. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير علي بن زيد وهو حسن الحديث. * الصحابة الذين تعلم على أيديهم قدم الأحنف المدينة في عهد سيدنا عمر بن الخطاب، مما أتاح له مقابلة عدد كبير من كبار الصحابة ليتعلم منهم ويأخذ عنهم، مما كان له من كبير الأثر في حياته، فتعلم من سيدنا عمر بن الخطاب، وتعلم من علي بن أبي طالب، وجلس مع أبي ذر الغفاري، وأخذ عن عثمان بن عفان، وتعلم من عبد الله بن مسعود، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. * أثر الصحابة في الأحنف بن قيس - عمر بن الخطاب كان للصحابة أثرًا قويًا في نفوس التابعين، وممن تأثر بالصحابة، وتربى على أيديهم الأحنف بن قيس خاصةً من سيدنا عمر بن الخطاب ومن مواقفه التي تدل على أن سيدنا عمر كانت له توجيهات قوية، وتأثيرًا كبيرًا في نفس الأحنف ما يرويه عن موقفه معه فيقول: قدمت على عمر بن الخطاب فإحتبسني عنده حولاً، فقال: يا أحنف، إني قد بلوتك وخبرتك فرأيت علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك على مثل علانيتك، وإنا كنا نتحدث إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم. وعن الأحنف بن قيس قال: خرجنا مع أبي موسى وفودًا إلى عمر، وكانت لعمر ثلاث خبزات يأدمهن يومًا بلبن ويومًا بسمن ويومًا بلحم عريض ويومًا بزيت، فجعل القوم يأكلون ويعذرون فقال عمر: إني لأرى تعذركم وإني لأعلمكم بالعيش، ولو شئت لجعلت كراكر وأسنمة وصلاء وصنابًا وصلائق، ولكن أستبقي حسناتي إن ذكر قومًا فقال: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ). ويقول سيدنا عمر بن الخطاب للأحنف مربيًا: يا أحنف من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه. - صعصعة بن معاوية وممن كان له أثرًا كبيرًا في نفس الأحنف عمه صعصعة الذي تعلم منه الحلم والأناة تلك الخصلة التي يحبهما الله، يقول الأحنف بن قيس لأصحابه يومًا: أتعجبون من حلمي وخُلقي؟ إنما هذا شيء إستفدته من عمي صعصعة بن معاوية، شكوت إليه وجعًا في بطني فأسكتني مرتين ثم قال لي: بإبن أخي لا تشك الذي نزل بك إلى أحد، فإن الناس رجلان: إما صديق فيسوءه، وإما عدو فيسره، ولكن أشْكُ الذي نزل بك إلى الذي إبتلاك، ولا تشك قط إلى مخلوق مثلك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه مثل الذي نزل بك، بابن أخي إن لي عشرين سنة لا أرى بعيني هذه سهلاً ولا جبلاً فما شكوت ذلك لزوجتي ولا غيرها. - قيس بن عاصم المنقري وممن رباه أيضًا على الحلم قيس بن عاصم المنقري، وقد سئل الأحنف بن قيس يومًا: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري لقد اختلفنا إليه فى الحلم كما يختلف إلى الفقهاء، فبينا نحن عنده يوما وهو قاعد بفنائه محتب بكسائه، أتته جماعة فيهم مقتول ومكتوف فقالوا: هذا إبنك قتله إبن أخيك قال: فوالله ما حلّ حبوته حتى فرغ من كلامه، ثم إلتفت إلى إبن له في المسجد فقال: أطلق عن إبن عمك، ووار أخاك، وإحمل إلى أمه مائة من الإبل فإنها غريبة. * أثره في الآخرين كان للأحنف بن قيس أثرًا في نفوس الآخرين فكان يجلس مع مصعب بن الزبير على سريره فجاء يومًا ومصعب ماد رجليه فلم يقبضهما، وقعد الأحنف فزحم بعض الزحم فرأى ذلك فيه فقال: عجبًا لإبن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين. وكتب الأحنف بن قيس إلى صديق له ينصحه: أما بعد فإذا قدم عليك أخ لك موافق فليكن منك مكان سمعك وبصرك، فإن الأخ الموافق أفضل من الولد المخالف، ألا تسمع إلى قول الله لنوح في شأن ابنه: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) يقول: ليس من أهل ملتك، فإنظر إلى هذا وأشباهه فإجْعلهم كنوزك وذخائرك وأصحابك في سفرك وحضرك، فإنك إن تقربهم تقربوا منك، وإن تباعدهم يستغنوا بالله والسلام. * مواقف الأحنف مع عمر بن الخطاب أوفد أبو موسى الأشعري وفدًا من أهل البصرة إلى عمر بن الخطاب فيهم الأحنف بن قيس، ولم يكن عمر رأى الأحنف قبل ذلك، فلما دخلوا عليه تكلم كل رجلاً فيهم في خاصة نفسه وكان الأحنف آخر القوم، فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أمير المؤمنين إن أهل الشام نزلوا منازل أهل قيصر، وإن أهل مصر نزلوا منازل فرعون وأصحابه، وإن أهل الكوفة نزلوا منازل كسرى ومصانعه في الأنهار العذبة والجنان الحسنة، وفي مثل عين البعير وأتتهم ثمارهم قبل أن يحصدوا، وإن أهل البصرة نزلوا في سنحة نشاشة لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها، طرفها في بحر أجاج وطرفها بالفلاة لا يأتينا شيء إلا في مثل مدى النعامة، فارفع خسيستنا ولا تفشي وقيصتنا وزد في رجالنا رجالاً وفي عيالنا عيالاً، وأصغر درهمنا وأكبر فقيرنا، ومر بنهر يكرى لنا نستعذب منه فقال عمر للقوم: أعجزتم أن تكونوا مثل هذا، هذا والله السيد قال الأحنف: فما زالت بعد أسمعها من الناس هذا والله السيد. وعن الفضل بن عميرة قال: أن الأحنف بن قيس قدم على عمر بن الخطاب في وفد من العراق، وكان ذلك في يوم صائف شديد الحر وهو متحجز بعباءة يهنأ يهنأ. يقال: هنأت البعير أهنؤه إذا طليته بالهناء وهو القطران. ببعير من إبل الصدقة فقال: يا أحنف ضع ثيابك، وهلم وأعن أمير المؤمنين على هذا البعير فإنه من إبل الصدقة فيه حق اليتيم والأرملة والمسكين فقال رجل: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين فهلا تأمر عبدًا من عبيد الصدقة فيكفيك هذا؟ فقال عمر: يا إبن فلانة، وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف بن قيس هذا؟ إنه من ولي أمر المسلمين فهو عبد للمسلمين، يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده من النصيحة وأداء الأمانة. وروي أن عمر ذكر بني تميم فذمهم، فقام الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين إئذن لي فلأتكلم، قال: إنك ذكرت بني تميم بالذم، وإنما هم من الناس فيهم الصالح والطالح، فقال: صدقت فقفا بقول حسن فقام رجل كان يناوئ الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، ائذن لي فلأتكلم فقال: اجلس فقد كفاكم سيدكم الأحنف. * مواقفه مع معاوية بن أبي سفيان قال يزيد بن معاوية أرسل أبي إلى الأحنف بن قيس فلما وصل إليه قال له: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ قال: يا أمير المؤمنين، هم ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة وبهم نصول على كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فإرضهم، يمنحوك ودهم ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملوا حياتك ويودوا وفاتك ويكرهوا قربك، فقال له معاوية بن أبي سفيان: لله أنت يا أحنف لقد دخلت علي وأنا مملوء غضبا وغيظا على يزيد. فلما خرج الأحنف من عنده رضي عن يزيد، وبعث إليه بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب، فأرسل يزيد إلى الأحنف بمائة ألف درهم ومائة ثوب فقاسمه إياها على الشطر. ومن مواقفه مع معاوية أنه وفد عليه فقال له: أنت الشاهر علينا سيفك يوم صفين والمخذل عن عائشة أم المؤمنين! قال: لا تؤنبنا بما مضى منا، ولا ترد الأمور على أدبارها، فإن القلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا، فلما خرج قالت أخت معاوية: من هذا الذي يتهدد؟ قال: هذا الذي إن غضب، غضب لغضبه مائة ألف من تميم، لا يدرون فيم غضب. * شخصية الأحنف بن قيس - عبادته لقد كانت عامة صلاة الأحنف بالليل، وكان يضع المصباح قريبًا منه فيضع إصبعه على المصباح ثم يقول: حس، ثم يقول: يا أحنف ما حملك على أن صنعت كذا يوم كذا. وقد قيل للأحنف بن قيس: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك، فقال: إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه. - خوفه ومحاسبته لنفسه كان الأحنف بن قيس يقول: عرضت عملي على عمل أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونًا بعيدًا لا نبلغ أعمالهم، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وعرضت عملي على عمل أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم مكذبون بكتاب الله وبرسل الله مكذبون بالبعث بعد الموت، فقد وجدت من خيرنا منزلة قومًا خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا. وكان يقول: (اللهم إن تغفر لي فأنت أهل ذاك، وإن تعذبني فأنا أهل ذاك). وصعد الأحنف بن قيس فوق بيته يومًا فأشرف على جاره فقال: سوءة سوءة، دخلت على جاري بغير إذن لا صعدت فوق هذا البيت أبدًا. - شجاعة الأحنف بن قيس عرف عن الأحنف بن قيس أنه كان من الشجعان، فيُروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه على جيش قِبَل خراسان فبيتهم العدو ليلاً ففرقوا جيوشهم أربعة جيوش، وأقبلوا معهم الطبول ففزع الناس وكان أول من ركب الأحنف فأخذ سيفه فتقلده ثم مضى نحو الصوت وهو يقول: إن على كل رئيس حقًا *** أن يخضب القناة أو تندقا ثم حمل على صاحب الطبل فقتله، فلما فقد أصحابه الصوت إنهزموا ثم حمل على الكردوس الآخر ففعل مثل ذلك، ثم حمل على الآخر ففعل، ثم حمل على الآخر ففعل مثل ذلك، وهو وحده ثم جاء الناس وقد انهزم العدو فاتبعهم الناس يقتلون ثم مضوا حتى فتحوا مدينة يقال لها: مرو الروذ. * وفاة الأحنف بن قيس كان موته بالبصرة زمن ولاية مصعب بن الزبير سنة سبع وستين ومشى مصعب في جنازته وقال مصعب يوم موته: ذهب اليوم الحزم والرأي. ولقد مات الأحنف بن قيس في دار إبن أبي عصيفير بالكوفة، فجاءت امرأة على بغل في رحالة وحولها جماعة نساء فقالت: أيها الأمير إن ابن عمي مات بأرض غربة فأذن لي أندبه فقيل: شأنك فقالت: لله درك من مجن في جنن، ومدرج في كفن، أسأل الله الذي ابتلانا بفقدك وفجعنا بيومك، أن يوسع لك في لحدك، وأن يكون لك في يوم حشرك، ثم أقبلت على الناس فقالت: أيها الناس إن أولياء الله في بلاده شهود على عباده وإنا لقائلون حقًا ومثنون صدقًا ثم قالت: أما والدي كنت من أمره إلى مدة، ومن المضمار إلى غاية من الموت إلى نهاية الذي رفع عملك عند انقضاء أجلك. لقد عشت حميدًا مودودًا، ومت شهيدًا فقيدًا، ولقد كنت في المحافل شريفًا، وعلى الأرامل عطوفًا، ومن الناس قريبًا، وفيهم غريبًا، وإن كنت لمسودًا، وإلى الخلفاء موفدًا، وإن كانوا لفقدك لمستمعين ولرأيك لمتبعين.