بقلم: أحمد أبو رتيمة قال لي صاحبي وهو يحاورني هل نستدل على القرآن بالعلم أم نستدل بالقرآن على العلم؟! قلت له: يا صديقي إن النقاشات اللفظية تغرقنا فنتيه بين الألفاظ بينما تضيع المعاني، دعنا نتفق على المعاني فهذا هو المهم ثم لنعبر عن هذه المعاني بأي طريقة مناسبة.. ما هو العلم الذي نقصده؟؟ إن العلم الذي أفهمه ليس نظريات وفرضيات تثبت اليوم وتمحى غداً، والعلم ليس كماً من المعلومات فهذا مفهوم جزئي للعلم أما العلم الذي أفهمه فهو منهج وطريق جعله الله للوصول إلى الحق، هو معنى روحي مثله مثل معاني الإحسان والتقوى والإيمان فهل يصح أن نقول مثلاً إن الإيمان قاصر أو إن التقوى قاصرة!! هذه معانٍ روحية لا نهائية وهي لا يمكن أن تكون متناقضةً مع القرآن حتى نعقد مقارنةً مثلاً بين القرآن والتقوى، أو القرآن والإيمان!! هذه مقارنة غير معقولة أصلاً، كذلك لا يصح أن نقول إن العلم قاصر فهو بهذا المعنى الروحي ليس كمياً له حدود بل طريقة نوعية، أو أن نقارن بين العلم والقرآن، فالقرآن علم أصلاً.. العلم الذي أفهمه في القرآن يعني اليقين واعتماد البرهان والدليل في أي دعوى والعلم بالمفهوم القرآني مناقض للهوى وللظن كما تعلمت من الأستاذ جودت سعيد: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى).. والهدى الذي جاء النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو العلم: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير).. وسمي الذي أوحى إلى النبي بالعلم لأنه حق يقيني فهو ليس ظناً ولا اتباعاً للهوى وكل ما ينطبق عليه هذا الشرط: اليقين والابتعاد عن الظن والهوى فهو علم، يستوي في ذلك أن يكون حقيقةً فيزيائيةً أو بيولوجيةً أو روحيةً، فالعبرة ليست بالميدان التخصصي إنما بالمنهج، والقرآن حسب طبيعة وظيفته فإنه يستعمل لفظ الحق غالباً في سياق المعنى الروحي، لكنه مع ذلك يستعمله في سياقات أخرى ففي هذه الآية مثلاً: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّلائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) فإن الحق الذي يقوله الله تعالى هو حقائق طبيعية، مما يعني أنه لا مبرر لتقسيم هذه المعاني الروحية إلى حقول وتخصصات، فالعلم واحد والحق واحد.. إن أي قول يقوم على اليقين ويعضده البرهان، ويتجرد من الهوى والظن فهو علم امتدحه الله تعالى وجعله الطريق إلى الوصول إليه.. العلم بهذا المعنى هو طريق الوصول إلى الله: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم)، والله عز وجل، حين يرتضي العلم طريقاً فهذا يعني أنه طريق مقدس، والله عز وجل يدلل على ذاته وعلى فردانيته بالعلم، فهو يتحدى المشركين أن يأتوا ببرهان على وجود إله آخر غيره: (ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه)، (إن عندكم من سلطان بهذا)، (هل عندكم من علم فتخرجوه لنا)، وفي كل الآيات التي يذم الله تعالى فيها المشركين والكفار فإنه يذم فيهم كذبهم واتباعهم الهوى والظنون ومجانبتهم لطريق العلم المقدس، فإذا كان الله قد ارتضى بالتدليل على وحدانيته وفردانيته بالعلم ففتح أبواب النقاش العلمي على مصراعيه وتحدى القائلين بأي دعوى بأن يأتوا ببرهان يعضدها، فهل نشك بعد ذلك بقداسة العلم.. إن القرآن ذاته قد عرفناه بالعلم، فنحن لم نكن لنصدق ما جاء في القرآن لولا أن أخضعناه للمعيار العلمي القائم على البرهان: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، والقرآن لا يكتفي في تقديسه للعلم بأن يثبت مصدره الإلهي عن طريق العلم والبرهان مرةً واحدةً بل إنه يفتح الباب على مصراعيه في المستقبل حتى يستدل الناس بالعلم على القرآن: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).. كيف نعرف أن القرآن هو الحق؟؟ بآيات الآفاق والأنفس وبالسير في الأرض.. فالعلم الخارجي القائم على البرهان واليقين الذي لا يحتمل الظن والهوى والتكذيب هو طريق يستدل به على القرآن.. وبذلك فإن العلم هو الطريق المقدس الذي عرفنا به الله ورسله وكتبه.. العلم الذي يعني منهج البرهان واليقين والتجرد من الهوى والظن وليس العلم الذي يعنى به معارف ونظريات جزئية قابلة للمحو أو الإثبات... ذهب محمود طه وآخرون ضحية رغبة محمومة بإبقاء الصراع بين القوى الدينية ونظام سلطوي ارتجالي لا يعتمد على مرجعية فكرية جديدة.