بعد أن بين الله تعالى في الآيات الأولى من سورة فاتحة الكتاب كيفية التلقين المتضمن ذكر الحمد الخاص به وتسليم الأمر له جل شأنه في ملكه ليوم الدين، وإرجاع أمر العبادة والاستعانة إليه دون غيره، انتقل سبحانه إلى تبيان نوعية الهداية التي جمعت الطرق المتفرقة في »الصراط المستقيم« فقال: »اهدنا الصراط المستقيم« (فاتحة الكتاب 6). وكأن هذه المرحلة هي التي وجد الإنسان من خلالها طريقه للعبادة التي استعان بالله تعالى على تأديتها للوصول إلى البغية الحقيقية والمستقر النهائي على وجه التحديد. وتقسم الهداية في القرآن الكريم إلى قسمين أساسيين، أما باقي فروع الهداية الثانوية فقد ترد جميعها إلى هذين القسمين، ويطلق على القسم الأول »الهداية التكوينية«، وتعني الإيصال إلى المبتغى دون إراءة الطريق المؤدي إليه، وذلك لعدم تدخل المخلوقات في هذه الهداية التي هي خارجة بالفعل عن الاختيار، ويشهد لهذا النوع من الهداية قوله تعالى: »الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى« (طه 50). أي أن الله تعالى جعل في المخلوقات قابلية السير والوصول إلى المبتغى التكويني دون اختيارها، وذلك بتركيب الاستعداد الفطري فيها والذي يعتمد على قوى تلك المخلوقات وسيرها إلى الكمال المخصص لبقاء نوعها وحركته في الكون تبعاً إلى ما يتناسب والمهمة التي خلقت من أجلها، وهذا ما جعل القرآن يقدم إعطاء كل شيء خلقه على الهدى. ومن هنا يظهر صدق البيان في جعل ارتباط المشيئة التكوينية التي يشكل معناها على كثير من الناس عند مقابلتها باللوازم الإرادية التي تفترق عنها في الاختيار المصنف ضمن النوع الثاني من الهداية. فتأمل وستجد الفرق. القسم الثاني من الهداية يطلق عليه »الهداية التشريعية«، وتبنى لوازم هذه الهداية على إراءة الطريق بفعل فاعل، مما يجعل التحكم بها خاضعاً للاختيار الذي بموجبه يقرر الإنسان مدى الرفض أو القبول، ويشهد لها قوله تعالى: »ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين« (البقرة 2). وكذا قوله: »إنما أنت منذر ولكل قوم هاد« (الرعد 7). وهذا يدل على أن ما يقوم به الهُداة ما هو إلا تفرع على إنذار النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومن مصاديقه قوله تعالى: »وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا« (الحشر 7). وقوله: »وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم« (الشورى 52). فإن قيل ما وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: »إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء« (القصص 56). أقول: المراد في هذه الآية هو قبول الهداية، وهذا بطبيعة الحال لا يدخل في إراءة الطريق وإنما يترتب عليه شأن القابل دون الفاعل، وبالتالي يكون مرد النتائج إلى الله تعالى جزاءً وليس ابتداءً. من هنا يظهر أن قوله تعالى »اهدنا الصراط المستقيم« هو بمثابة التحصن بالله تعالى نتيجة الفيض المتخذ من ذكر الحمد وصولاً إلى الدعاء في طلب العون على العبادة الخالصة له وحده دون غيره، ثم انتقل تعالى بعد ذلك إلى تلقين العبد كيفية طلب الهداية المتضمنة للتوجه السليم المشار إليه في قوله: »ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم« (آل عمران: 101). وفي حالة جمع متفرقات القرآن الكريم التي تشير إلى هذا المعنى نجد أن مفهوم الصراط يرد إلى الدين وإن اختلفت مصاديقه، وهذا ما يبينه الفرق بين اتباع الشيطان وبين سلوك طريق الحق الذي أشار له تعالى بقوله: »ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم« (يس 60-61). وبناءً على ما تقدم يظهر أن الصراط هو دين الله تعالى الذي بينه على لسان رسله، والذي يدعو من خلاله إلى توحيده جل شأنه كما في قوله: »قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين« (الأنعام 161). وهذا النهج يبنى على استمرار الاستقامة دون العدول عنها، وبهذا نصل إلى أن سبب تأكيد الصراط ب »المستقيم« يعني طلب العبد للاستمرار في الاستقامة. فإن قيل: ما هو الغرض من طلب الهداية، لا سيما في سورة فاتحة الكتاب التي تكرر في كل صلاة، إذا علمنا أن الإنسان قد اهتدى مسبقاً؟ أقول: استمرار طلب الهداية أشبه بالاغتسال الذي يسبق الأمور العبادية، وأنت خبير بأن طلب الهدى يؤدي إلى استقراره في نفس الإنسان الصالح، كما في قوله تعالى: »والذين اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم« (محمد 17). أما الزيغ عن طريق الحق سبحانه فإنه يجعل القلب لا يتقبل الحقائق الإيمانية، كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: »فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين« (الصف 5). من هنا يتضح أن الهداية التي يستمدها الإنسان مباشرة من الله تعالى لا يمكن استمرارها إلا بمتابعة طلبها قولاً وعملاً، ولهذا نجد الإشارة في متفرقات القرآن الكريم تبين هذا الأمر وتجليه على حقيقته التي حرفها البعض إلى اتباع السبل الجائرة، وقد ذكر تعالى هذه الحقيقة بقوله: »وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون« (فصلت 17). فإن قيل: هل يمكن أن نفهم من آية البحث أن الصراط هو أحد الطرق الحسية التي تظهر في الآخرة؟ أقول: الاستعمالات الحسية كثيرة في القرآن الكريم لأنها السبيل الوحيد في تقريب المعاني إلى الأذهان، باعتبار أن اللغة هي الوسيلة الأقرب لتبيان الطرق المعنوية إذا ما قرناها بالطرق الحسية المألوفة لدينا، وهذا نهج واسع في كتاب الله تعالى، حيث نجد انتشار الصور التي ترمز إلى السقوط من الأعلى إلى الأسفل، وفتح أبواب السماء والانحراف عن سواء السبيل والصعود إلى الأعلى، وما إلى ذلك من الإشارات التي يتفهمها الإنسان من خلال المناظر التي دأب على مشاهدتها، وأصبحت راسخة في ذهنه، فعند مشاهدة الأشياء الساقطة على الأرض من الأعلى فإن هذا المنظر يرشد إلى الواقع الخاسر الذي يكرر أمام أعين الناس في كل وقت، ولهذا أشار تعالى إلى الخسران المعنوي بقوله: »كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى« (طه 81). وعند التأمل أكثر نجد أن القرآن الكريم يصور السماء بأنها ذات أبواب لا يمكن فتحها للذين كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها، كما في قوله: »إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين« (الأعراف 40). وفي موضع آخر نشاهد صورة أخرى لوسط الطريق الذي ضل عنه من يتبدل الكفر بالإيمان، وذلك في قوله تعالى: »ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل« (البقرة 108). أما الطرق الصحيحة التي تؤدي إلى الصراط المستقيم فقد أشار إليها تعالى بالارتفاع والصعود، كما في قوله: »إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه« (فاطر 10). وكذا قوله: »يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات« (المجادلة 11). وقد جمع الحق سبحانه هذه الوجوه التي تصور تعدد السبل الصحيحة التي تنتهي إلى صراطه المستقيم، وذلك في قوله: »قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم« (المائدة 15- 16). عبد الله بدر المالكي