كانت مجالس الصحابة والأنبياء كلها مجالس إن لم تكن في ذكر الله فهي في التقرُّب إلى الله عز وجل، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسَ فِيهَا) [رواه أحمد]. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [سورة الأحزاب]. وقد ورد في السنة أنه (برئ من النفاق مَن أكثر من ذِكر الله)، والمؤمن يذكر اللهَ عفوًا، دون تكلُّف، لأن كلَّ نشاطه وكل اهتمامه منصبٌّ على معرفة الله. وإذا أردتَ أن تسعد في كل مجلس فليكن هذا المجلس ذكرًا لله عز وجل، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ). وفي هذا الحديث القدسي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) [رواه البخاري]. الله عز وجل يرفع لك ذكرك، ويصير اسمُك متألِّقًا، والناس يثنون عليك، هذا شيء ثمين جدًّا، هذا لا يناله كلُّ الناس إلا من أخلصوا لله عز وجل، فلذلك اجعل همَّك وديدنك ذكر الله، (ومن شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين)؛ فكان عليه الصلاة والسلام لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله تعالى. وهو القائل: (أُمرتُ أن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرة). كان النبي يجلس حيث انتهى به المجلس ومن شمائله صلى الله عليه وسلم في مجالس أصحابه أنه لا يوطِّن الأماكنَ، وينهى عن توطينها، فأيّ مكان يجلس، وكلُّ مكان لأي إنسان، ليس لإنسان مكان خاص، توطين الأماكن، كأنْ يقال: هذا المكان لفلان، وهذا لفلان وهذا لفلان، لا بل المؤمنون سواسية، يتفاوتون عند الله بتقواهم، أما الأماكن فما كان يحبُّ صلى الله عليه وسلم أن تُوطَّن الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قومٍ جلس حيث ينتهي به المجلس، وكان النبيُّ الكريم على عظم قدره وعلى جلالة مكانته يجلس حيث ينتهي به المجلسُ، والأبلغ من ذلك كان الأعرابي إذا دخل على مجلس رسول الله لا يعرفه ويقول: أيُّكم محمد؟ أين كان جالسا؟ لو كان له كرسيٌّ ضخم ما قال: أيكم محمد؟ وهو ما يعني أن سيدنا محمداً جالس على الأرض مع أصحابه، ليس له ما يميِّزه إلا وضاءة وجهه. أما إن أراد الجالس إكرام القادم، فهذا من فضله، وسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً، وإلى جانبه سيدنا عليّ، فدخل سيدنا الصدِّيق فقام سيدنا علي وأعطاه مكانه، فأُعجب النبيُّ بهذا الأدب، قال: لا يعرف الفضل لأولي الفضل إلا أهلُ الفضل، فإذا آثر الإنسان إنسانًا أكبر منه بمحلِّه، فهذه فضيلة، أما إذا فرض الكبير على الناس مكانا معيَّنا فقدْ خالف السنة. كان النبي ينظر إلى جميع جلسائه كما كان النبيُّ عليه السلام يعطي كل جلسائِه نصيبهم، ينظر إلى الجميع، ويبتسم إليهم، ويصافحهم، فلا يحسب أحد أن أحداً أكرم عليه منه، فكان كل واحد من أصحابه -على كثرتهم- يعتقد جازماً أنه أقرب الناس لرسول الله، يخصُّ كلَّ إنسان بابتسامة وبكلمة طيِّبة، وبمؤانسة، فهذا النبي يمدح سعد بن أبي وقاص (هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ) ويقول عن أبي عبيدة بن الجراح (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ)، وهناك حديث يقول: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَالَ رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُ ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ فَوَزَنَ ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ بِهِمْ ثُمَّ رُفِعَتْ). ولم يكن النبي في ذلك ذلك مجاملاً ولا يفعل ذلك رفعاً لمعنويات أصحابه دون أن يكونوا كذلك، بل صرح فقط بمكانة كل واحد وشأنه وإخلاصه وتفوُّقه بين أصحابه وعرف مكانته عند الله. ولم يكن النبي يصف أحداً إلا بما يليق به، ما ظلم أحدا، ولا طمس مكانة أحد. لم يرد النبي حاجة أحد قط والنبيُّ عليه الصلاة والسلام ما كسر خاطر إنسان في حياته، من جالسه أو فاوضه في حاجة يصابره حتى يكون هو المنصرف، وحتى يشبع ويتملَّى من رسول الله ويحلُّ كل مشاكله، ويسأله، ويستأنس به، حتى ينصرف مِن تلقاء نفسه، هذا صبر الأنبياء. وكان عليه الصلاة والسلام من سأله حاجة لم يردَّه إلا بها، أو بميسور من القول، هذه قضية دقيقة، لما يكون الإنسان أثيرا عند الله عز وجل يجعل حوائج الناس إليه، إذا أحبَّ الله عبدا جعل حوائج الناس إليه، أن يتَّجه الناسُ إليك بحاجاتهم، هذا دليل أنك ذو مكانة عند الله عز وجل، ولو أن الله عز وجل رفضك لانفضَّ الناسُ مِن حولك؛ فالإنسان المحبوب بابه مطروق، وإذا غضِبَ الله عز وجل على إنسان جعله مفتاحا للشر. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنكم لن تسعوا الناسَ بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)، فابتسامتك صدقة، وطلاقة وجهك صدقة، واستقبالك الطيِّب صدقة، وترحيبك صدقة، أن تمشي مع أخيك في عمل صالح صدقة، فإذا كان دخلُك لا يكفي لتنفق يمينا وشمالا، فأخلاقك تسع الناسَ. ولا يسمح النبيُّ بفضح امرئ عنده فكان يقول: (لا تحمِّروا الوجوه)، وإذا أراد أن يرشد أصحابه لشيء وبينهم صحابي أخطأ، يصعد المنبر ويقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا. ولذلك يقول عنه تعالى {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [سورة آل عمران] ما عاب النبي طعاما قط ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بصخَّاب، ولا فحَّاش، ولا عيَّابٍ لطعام؛ ما عاب طعاما قط، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ) [رواه البخاري] (والكراع ساق الحيوان وغالبا يكون خاليا من اللحم). وأنت برحمتك ورقتك أخجلت من حولك بالأدب وإن كانوا مخطئين وهي منزلة عظيمة لا يقدر عليها إلا الصادقون المتبعون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: (دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الصَّنْعَةِ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ خَلْفِهِ فَجَذَبَ بِطَرَفِ رِدَائِهِ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَثَّرَتْ الصَّنْعَةُ فِي صَفْحِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنَا مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ قَالَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ: مُرُوا لَهُ). فاللهم صلِّ على سيدنا محمد الرحمة المهداة وعلى آله وصحبه وسلم.