لا تقف عند القيم المطلقة بل تُقدِّم نموذجًا عمليًّا إذا كان (عِلم التاريخ) -في عمومه وامتداده، زمانًا ومكانًا- مُهمًّا وضروريًّا لفَهْم سُنن الله (الثابتة) في الأمم والحضارات، وللوقوف على عوامل النُّهوض والسُّقوط، والانتصار والانكسار؛ كما أكَّد القرآن في مواضعَ متعدِّدة: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 137، 138]. إذا كان هذا ثابتًا ومؤكَّدًا لِمَن كان له حظٌّ من فَهْم، فإنَّ العِلمَ ب(السيرة النبوية) -وهي جزءٌ من التاريخ، بل هي أفضل ما عُرِف في التاريخ- واستيعاب ما فيها من دروس وعِبَر تتصل بحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وعبادته، وسلوكه مع أزواجه وأولاده، وأخلاقه في سِلْمه وحَرْبه - ضروريٌّ أيضًا للمسلم الذي يُريد أن يفهم الإسلام ويحيا به، كما فَهِمه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وطبَّقه في حياته ومع أصحابه. وإذا كان (القرآن الكريم) -وكذا (السنة النبوية)- يُعطينا بيانًا (نظريًّا) للعقائد والأخلاق والتشريعات، أمرًا ونهيًا، فإن (السيرة النبوية) تُعطينا النموذج (العملي) لتلك العقائد والأخلاق والتشريعات، وتُعلِّمنا كيف يحيا المسلم مطمئنًّا ومتوازنًا في ظلال المنهج الربَّاني، وكيف يسعد به في دنياه وأُخراه، وكيف يطبِّقه على مستوى الفرْد والأسرة، والمجتمع والدَّولة؛ ولذلك جاء عن سعد بن أبي وقَّاص أنَّه قال: (كنَّا نُعلِّم أولادَنا مغازي رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- كما نُعلِّمهم السورة من القرآن)؛ فالسيرة النبويَّة متمِّمةٌ للقرآن في فَهْم الإسلام، وشرْح مقاصده وأحكامه وتوجيهاته. إنَّ الميزةَ الأساسيَّة للسِّيرة النبويَّة: أنَّها لا تقف عند (القيم المطلقة)، و(المُثُل المجرَّدة)؛ بل هي تُقدِّم نموذجًا عمليًّا وتطبيقًا حيًّا لهذه القِيَم والمُثُل والنُّصوص، كما تُقدِّم لنا نموذجًا (بشريًّا) بلغ أرقى درجات (الكمال البشري)؛ بما حَبَا اللهُ صاحبَها -عليه الصلاة والسلام- مِن عصمة وتأييد. ولذلك استحقَّت السِّيرة النبويَّة أن تكون محلَّ أُسوة واقتداء؛ بل أن تكون النموذجَ الواجب الاتباع والاقتداء، وقد أكَّد الله -سبحانه- في القرآن الكريم هذا المعنى بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وقوله أيضًا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. أعظم عظماء التاريخ: لقد جاءتْ سيرةُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لِتمثِّلَ -برقيِّها وسموِّها- التطبيقَ (البشري) الكامل للقِيم (المُطْلَقة) السامية في مختلف جوانب الحياة؛ سواء في سلوك الإنسان مع ربِّه -سبحانه- أو مع زَوجِه وأهل بيته، أو مع الناس جميعًا. فهو -صلَّى الله عليه وسلَّم، قبل النبوة وبعدها- بشرٌ ممَّن خلق الله، يجوز في حقِّه ما يجوز في حقِّ البشر، ويُصيبه ما يُصيبهم؛ لكن في حدود دائرة (العِصمة) وما يجب لها، وبذلك تحقَّقت المثالية في سيرته العَطرة، وتجسَّد (الكمال البشري) في أرقى صُورِه وحالاته، حتَّى إنَّ الكاتب الأمريكي مايكل هارت جعل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: (أعظم عُظماء التاريخ). وقال عنه الأديب البريطاني برنارد شو -في إعجابٍ بالغ-: (إنَّ العالَم أحوجُ ما يكون إلى رَجلٍ في تفكير محمَّد، هذا النبي الذي وضع دِينه دائمًا موضعَ الاحترام والإجلال؛ فإنَّه أقوى دِينٍ على هَضْم جميع المدنيَّات، خالدًا خلودَ الأبد، وإنِّي أرى كثيرًا من بني قومي قد دخلوا هذا الدِّين على بيِّنة، وسيجد هذا الدِّينُ مجالَه الفسيح في هذه القارَّة)، يعني: أوربا. ولسْنا بحاجةٍ إلى الاستشهاد بأقوال المفكِّرين الغربيِّين للاستدلال على مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- فمكانته السامية ثابتة من قبل، عندنا -نحن المسلمين- ولكنَّا أردنا أن نُبَيِّن أنَّ الحقيقة الناصعة تأسِر العقولَ الراجحة عندما تتجرَّد عن هواها، وترتفع عن الأغراض الدنيئة، وأنَّ الإنسانيَّة الكاملة تستهوي القلوب والأفئدة، وتستنطق ممَّن يلمسها ويشاهدها آياتِ الإعجاب والتقدير. إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لو كان مَلَكًا، لانتَفتْ إمكانيةُ الاقتداء به، ولانتفت معها أيضًا إمكانيةُ تطبيق القِيَم التي يدعو إليها؛ لكن جاءتْ بشريَّتُه -صلى الله عليه وسلم- لتكونَ شاهدَ صِدقٍ على إمكانية تجسيد هذه القِيم المطلقة التي يدعو إليها في عالَم الواقع والحياة، على الرَّغم ممَّا في هذا العالَم من نوازغَ وشهواتٍ وصوارف، تتواطأُ جميعُها على الإنسان؛ لتصرفَه عن الطريق المستقيم، والغاية التي مِن أجلها خَلَقه الله -سبحانه- واستخلفه في الأرض: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56، 57]. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- مِثل بقية البشر: يأكل، ويتزوَّج، ويمشي في الأسواق، ويغضب ويَرْضى، ويُحبُّ ويكره، وينام ويموت، ومع ذلك فهو -صلى الله عليه وسلم- في كلِّ حالاته هذه نبيٌّ يُوحَى إليه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110]. وقد احتجَّ الكفَّار -لجهلهم وغفلتهم- على كونِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشرًا مثلهم، وراحوا يُردِّدون حُجَجَهم الواهية بأنَّ الرسول لا بدَّ أن يكون مَلَكًا، أو على الأقلِّ ينزل معه مَلَك يُؤيِّد دعوته، ويُعزِّز حُجَّته، ويبلِّغ معه؛ وقد حكى الله _سبحانه_ في القرآن ذلك عنهم في قوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 33، 34]، وقوله: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7]. فجاء القرآن حاسمًا في الردِّ عليهم، وبيَّن الله -سبحانه- أنَّه لو أنزل مَلَكًا إلى عباده لأنزلَه في صورة بَشَر؛ حتى يتمكَّنوا من مخاطبته، والأخذِ عنه، والاقتداء به. فلو كان الرسول مَلَكًا، لَمَا كان محلاًّ للقدوة والاتِّباع؛ لأنَّهم -أي: الكفار- سيقولون ساعتَها: إنَّ الرسول الذي أُمروا باتِّباعه والاقتداء به، له قُدراتٌ ومَلَكَات ليست لهم، وبالتالي فهو يستطيع أن يفعلَ أمورًا ليس بمقدورهم أن يَبْلغوها، وقد ردَّ الله عليهم حُجَّتهم بقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8، 9]، وكما قال بعضُ المفسرين: لو أنزل اللهُ مَلَكًا ثم لم يؤمنوا، لعجَّل لهم العذاب. مقياسان للكمال البشري: إنَّنا إذا أردنا أن نعرِف بإيجاز: كيف كانت سيرةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- مظهرًا وتجليًّا للكمال البشري، فلننظرْ -مثلاً- كيف كان يغضب النبي -صلى الله عليه وسلم؟ ومتى كان يغضب؟ وهل كان يَستِبدُّ به غضبُه، فيفعل ما لا يَليق بمقام النُّبوَّة؟ ولننظرْ - أيضًا - كيف كان مَسْلكُه -صلى الله عليه وسلم- بين الرعية؟ وكيف كان عَدلُه فيهم؟ وهل كان عندَه محاباةٌ لقريب أو لصَدِيق مثلما نفعل نحن البشر؟ إنَّ معرفتنا بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هاتين الحالتين كنموذج - كفيلةٌ أن تُظهر لنا بوضوح أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بَلَغ درجةً من الكمال البشريِّ لم يصلْ إليها نبيٌّ مرسَل، وكفى بذلك شرفًا ومنزلةً. - أمَّا كيف كان يغضب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ ومتى كان يغضب؟ فيكفي أن نعرف أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ينتقمُ لنفسه قطُّ، ولم يكن يغضبُ إلاَّ إذا انتُهِكتْ حُرماتُ الله، وكان إذا غضب لا يقول إلاَّ صِدقًا، ولا يفعل إلاَّ عدلاً، وحين وجَّه بعضُ الصَّحابة اللَّومَ ل عبد الله بن عمرو؛ لأنَّه كان يكتب كلَّ ما يسمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا له: إنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكلَّم في الغضب، فلا تكتب كلَّ ما تسمع، فسأل عبدُ الله بن عمرو النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقال له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ). - وأمَّا عدلُه -صلى الله عليه وسلم- بينَ الناس، فحدِّث ولا حرجَ، ويكفي أنَّه -صلى الله عليه وسلم- عندما جاءَه أسامة بن زيد -وهو الحِبُّ ابن الحِبِّ- لِيَشفعَ عنده في المرأة المخزوميَّة التي كانت قد سرقت، نَهَره النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بشدَّة، وقال له: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟!)، ثم قام -صلى الله عليه وسلم- فخَطبَ الناسَ، وقال: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا). فهذا هو النبي -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء، وسيِّد ولد آدمَ ولا فخر، في بشريته الكاملة، وأخلاقِه الرَّفيعة مع نفسِه ومع الناس. وهؤلاءِ هُم أنبياء الله المعصومون، الذين جعلهم الله مناراتِ هِداية، وأُسوةً حسنة، وأعلامًا للخير والرَّشاد. وهذه هي الإنسانيَّة في أنقى صُورِها، وأطهر حالاتها.