بقلم: سعدون يخلف* إن الاستبداد يسجن الإنسان، فيكبل عقله، ويقتل عواطفه، ويدمر إنسانيته، فيصبح إنساناً أنانياً لا مبالياً بمن حوله، يسعى إلى تحقيق مآربه الخاصة، وبذلك يتحقق الهدف الأول للاستبداد، وهو تفريق المجتمع الواحد إلى كيانات متفرقة، وطوائف متناحرة، لذلك تجد أول ما يُقْدم عليه المستبد لتقوية دعائم حكمه وتثبيتها أكثر هو (قتل الإنسان) والمقصود بالإنسان هنا الإنسان الواعي والمسؤول والمالك لزمام أمره، والفاعل في تاريخه، والمهموم بقضيته وقضايا مجتمعه ومصير أمته، وعندما يموت هذا الإنسان يسهل التحكم في المجتمع، إذ يصبح بين يوم وليلة أشبه ب (قطيع الأغنام) يبحث عن إشباع رغباته البيولوجية. والسؤال الذي يثور في هذا الصدد هو: ما جناية الاستبداد على الأوطان والإنسان والمجتمعات؟ الإجابة عن هذا السؤال لا تستحق منا عناء البحث ومشقة التفكير، ومن يتجول في ثنايا جغرافية الوطن العربي، يدرك بنفسه جناية الاستبداد على الشعوب والأوطان، فالاستبداد هو الذي جعل الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين يستمر أكثر من ستين عاما.. وهو الذي دمر العراق وقسمه إلى طوائف وشيع.. وهوالذي يدمر سوريا ويشرد شعبها، وجعل أطفالها يتسولون في شوارع بيروت ودبي والقاهرة.. وهو الذي مكّن إيران من لبنان واليمن ودمشق وبغداد.. وهو الذي أحيا النعرات القومية وأيقظ الشعارات الطائفية.. وهو الذي باع ثرواتنا لأمريكا وفرنسا وانجلترا وإسرائيل بثمن بخس، وجعل المواطن العربي مهدداً في حياته وفي مصدر رزقه، فإن لم تأته رصاصة طائشة هنا، تنتظره سيارة مفخخة هناك، أو قنبلة تُلقى عليه من طائرة دون طيار، وإن كان محظوظاً وركب أمواج البحر طلباً للرزق، فإن الحوت سيلتهمه أو سيرميه البحر إلى شواطئه جثة هامدة.. وهو الذي جعل أوطاننا في حالة حرب أبدية ضد عدو وهمي، وفي المعركة لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص، كما يقال، الكل يبحث عن الأمن والاستقرار، ولا يسأل عن التنمية والبناء والحرية والديمقراطية. آليات الاستبداد بما أن هَمّ المستبد الوحيد هو كيف يبقى حاكماً طوال حياته، وحتى يحقق هدفه هذا، تجده يعتمد على العديد من الآليات منها: تقديم تنازلات للخارج، وإسكات الأصوات المناوئة له في الداخل، إما بالإغراء بالمناصب والمكاسب، وإن لم تجد هذه الطريقة نفعاً، فيعمل على إسكاتهم بالقهر، وذلك بالتهديد أو بالتجويع أو بالزج في السجون أو بإبعادهم عن بلدانهم، ومع مرور الوقت، تزداد الهوة بينه وبين شعبه، فيعمد إلى تقوية المحيطين به، المقربين منه والموالين له، بشتى الطرق والوسائل، أي أن المستبد في سبيل تحقيق طموحاته الشخصية يقوم بإضعاف الدولة، اعتقاداً منه بأنه يقوي نفسه، وحتى يسوّق قوته لغيره، تتعامل هذه الدولة، المرهونة له ولحاشيته، مع شعبها بشراسة وقسوة إلا أنها تتعامل مع أعدائها بوداعة ولطف، وذلك ما عبّر عنه المفكر المصري نزيه الأيوبي في كتابه الضخم (تضخيم الدولة العربية) عندما عرّف الدول القمعية بكونها: (دولا شرسة وواهنة في آن) والسبب في ذلك يرجع إلى (أنها تعتمد ليس على المشروعية والمقبولية الشعبية، بل على التخويف والتعذيب ). وعندما يزيد القهر والقمع، وينقسم المجتمع إلى أقلية مستفيدة متخمة تحتكر كل شيء، وأكثرية مهضومة الحقوق، جائعة تعيش على الفتات، يسقط حب الوطن من قاموس الأكثرية، ويصبح حب الوطن نكتة لجلد الذات المقهورة، وحتى يغطي المستبد على هذه النقيصة يُكثر من الاهتمام بالشكليات، فيصير العلَم الوطني شعاراً للزينة والتباهي حيث يعلق على الأقمصة وعلى..، وتكثرالأناشيد التي تمجد الوطن وتعلي من قيمة التضحية بالنفس لأجله، وكأن الولاء للوطن وحبه أنشودة نكررها ليلا ونهاراً. لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يعمل المستبد على التحكم في اللغة المستعملة، ويزيف التاريخ ويقلب الحقائق، ويشوه الدين ويعبث بنصوصه، ومع أنه _ أي المستبد - يطالب بإصلاح الدين ونصوصه، والتعليم ومناهجه، إلا أنه في الحقيقة لا يريد إصلاحهما، بل استغلالهما لصالحه بغية السيطرة على النفوس والعقول، وبالتالي تثبيت دعائم حكمه أكثر، وفي ذلك يقول عالم النفس المصري مصطفى صفوان: (إن السيطرة على النصوص الدينية والقانونية (وحتى التعليمية) هي أداة للسيطرة على النفوس. أضف إلى ذلك، أن المستبد ينشر في مجتمعه الأخلاق السلبية، فيعم الفساد وتنتشر الرشوة وتبجل القسوة ويحترم القوي ويحتقر الضعيف وتزداد الأنانية ويقل التكافل والتضامن بين أفراد الشعب الواحد، بمعنى آخر أن المستبد يعمد إلى تشكيل أفراد مجتمعه وفق صورته، وذلك ما أكده الدكتور مصطفى صفوان عندما حلل علاقة العرب بالحرية في كتابه (لماذا العرب ليسوا أحراراً) حيث قال: (المستبدون يصنعون الشعوب على صورتهم، ونحن نعرف الوسائل التي يستعملونها كي يعززوا هذه النزعة فيشتروا الذمم، وينشروا الخوف، وأهم من هذا كله يمنعون كل تجمع أو رابطة يمكن أن تتيح للشعب بناء تضامن حتى يدافع عن حقوقه). إذن، فإن التسلط الداخلي يُسلم الأوطان إلى الأعداء، ويُسلم الشعوب إلى اليأس والانتحار، ويُسلم الشباب إلى حضن التطرف، فتجدهم يعتنقون أفكاراً متطرفة تعبر عن القتل والدم، لذلك لا تتعجب إذا طلب الشعب السوري أو الليبي أو اليمني من الأعداء المساعدة والعون، ولا تتعجب إذا ركب الشباب قوارب الموت من أجل أن يحظى بعمل أو راتب محترم في بلد يعلي من شأن القانون ويحترم قدسية الإنسان، ولا تتعجب إذا سمعت أصواتاً هنا وهناك تطالب بالاستقلال والانفصال عن الوطن الأم، ولا تتعجب أيضا وأيضا وأيضا.. فهذه هي حصيلة الطغيان ومآل الاستبداد.