بقلم: سعدون يخلف يعتقد البعض بأن الربيع العربي قد أدى إلى عكس تطلعات الشعوب وأشواقها، فقد كانت الشعوب تتطلع من خلاله إلى تأسيس مشروع مجتمع يقوم على العدل والمساواة والعيش الكريم، إلا أن الملاحظ في كثير من دول الربيع العربي يرى بأن تلك الشعارات التي حلم بها العربي منذ سنوات طويلة لم يتحقق منها شيء، بل ضاعت المكاسب التي كانت متوافرة، والتي كان العربي يفتخر بوجودها قبل الثورات العربية، أي أن الوضع انتقل من السيء إلى الأسوأ، ولعل أبرز مثال على ذلك الحالة المصرية، فالمصريون أصبحوا ينظرون إلى عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك بأنه عهد ذهبي مقارنة بأيام الرئيس الجديد المشير عبد الفتاح السيسي، فثورة 25 يناير للأسف لم تحقق وعودها من حرية وعيش وعدالة اجتماعية بقدر ما كانت سبباً في تجديد النظام القديم نفسه في ثوب آخر، حيث حدثت انتكاسة كبرى في مجال الحقوق والحريات، وعاد الحكم الأمني بصورة رهيبة. كما أنهم يقولون إن العربي المسكين قد ضحى بما هو موجود في سبيل الحصول على ما هو مفقود، فما حافظ على الأول، ولا تحقق له الثاني، ويمثلون على ذلك بالأمن والاستقرار، حيث أصبحت كل الأقطار التي هبت عليها رياح الربيع العربي تعاني الفوضى واللا استقرار بسبب ضعف المنظومة الأمنية حيناً، وبسبب عدم وجود مظاهر الدولة التي ترهب الفاسدين وأصحاب النوايا السيئة حيناً آخر، كالحالة الليبية مثلا. ويزيد أصحاب هذا الاعتقاد بأن الربيع العربي قد أدى إلى ضياع أوطان وتدميرها، وربما إلى تقسيمها في قادم الأيام، ويحمّلون الشعوب الساذجة - على حد وصفهم - مسؤولية ذلك، لأنها أعطت الأعداء فرصة من أجل تنفيذ مشاريعهم التقسيمية، فسوريا بعد أكثر من ثلاث سنوات من الصراع، شعب مشرد ووطن مدمر ولغة طائفية مقيتة، والعراق مقبل على التقسيم لا محالة إلى ثلاث دول، كردية سنية وشيعية، وذلك بعدما تنافرت القلوب والعقول، واليمن يبحث عن ذاته أيبقى موحداً أم ينفصل جنوبه عن شماله، وما مصير الصراع مع الحوثيين؟، وليبيا تعيش على وقع صراعات ميليشياوية همها الوحيد هو السيطرة على الحكم، أما تونس الخضراء المستقرة في زمن بن علي فالإرهاب يهددها من كل جانب، ضف إلى ذلك ظهور إمارات ودول تحاول إحياء الخلافة من جديد وإعادتنا إلى الزمن الغابر. وفق هذا الرأي، فإن الثورات العربية هي أم المصائب كلها ، فهي السبب في كل ما يجري من قتل للإنسان وتدمير للأوطان، وهي التي جلبت الناتو إلى ليبيا، وهي السبب في ظهور الفتنة الطائفية والمذهبية، وهي السبب في ظهور التنظيمات الإرهابية التي تتخذ من الدفاع عن المذهب والطائفة والدين مشروعية وجودية، كل هذا بسبب الربيع العربي الذي أصبح يصور لنا بأنه مؤامرة خبيثة سعى إليها العدو الداخلي مع أعداء الخارج. وينسى أصحاب هذا التوصيف أن التطلع إلى الحرية شيء مقدس ومشروع، ويتماشى مع الفطرة الإنسانية، والشعوب العربية انتظرت كثيراً دولة الحق والقانون الموعودة، إلا أنه مع مرور الأيام والسنين اكتشفت زيف الوعود، بل إن القهر زاد والظلم اشتد، وأصبح الحاكم العربي ينظر إلى شعبه نظرة السيد إلى العبد، فأدركت أن الحرية تؤخذ ولا تعطى، حيث صاحت قائلة: للحرية الحمراء باب، بكل يد مضرجة يدقّ ، وصدحت بأعلى صوتها الشعب يريد إسقاط النظام . والسؤال الذي يطرح هنا: هل الربيع العربي وما آل إليه هو مؤامرة حقاً؟ إذا كانت هناك مؤامرة تستحق الذكر فهي مؤامرة هذه الأنظمة على شعوبها وأوطانها، وإلا كيف تفسر اختلاف هذه الأنظمة بعضها مع البعض في كل شيء وفي كل وقت، تصل في بعض الأحيان إلى المقاطعة والحرب الكلامية، إلا أنهم يتفقون أيام الخطر الداهم، ليس الخطر الذي يكون مصدره الخارج فهم أيضا مختلفون اتجاهه، بل الخطر الذي يأتي من الداخل، لأنهم ببساطة يرون هذه الشعوب مجرد خدم خلقوا من أجل خدمة أسيادهم، السادة الملوك والرؤساء، وتقديم لهم فروض الطاعة والولاء، وأي خروج عن هذا السياق من طرفها، فهي شعوب آبقة تستحق أشد العقاب. إن محاولة تحميل ثورات الشعوب العربية مسؤولية ما آلت إليه العديد من الأقطار العربية من فوضى ودمار وفتن، هي محاولة يائسة من أولئك الذين يحاولون تبرئة ساحة أنظمة الاستبداد العربي، فالمسؤول الأول والأخير عن القتل الذي يلحق بالبشر.. وعن الدمار الذي يطال الأوطان.. وعن جماعات التطرف والإرهاب التي تظهر هنا وهناك.. وعن الفتن الطائفية والمذهبية، المسؤول عن كل ذلك هو هذه الأنظمة التي لا تعترف بوجود شعوب من حقها أن تعيش كبقية شعوب العالم، شعوب لها أمال وطموحات.. لها أحلام وأشواق تريد تحقيقها. ضف إلى ذلك أن الاستبداد هو الذي يتواطأ مع جماعات التطرف والإرهاب من أجل إثارة الفتن لوقف التغيير الثوري الذي أطاح بأنظمة جثمت على صدر شعوبها أكثر من أربعين عاما، فالفتن إذن هي أحسن وسيلة من أجل تعطيل توجهات الثورة، وكبح جماح تطلعات الحرية، ومنع أي محاولة لتفكيك أنظمة الاستبداد والتسلط الداخلي والخارجي، في هذا الشأن يقول الكاتب مصطفى هميسي: الفتن تعطل توجهات الثورة، وكل تطلعات الحرية، وتعمل على وضع كل ما من شأنه أن يمنع بدء أي عملية تفكيك أنظمة الاستبداد والتسلط الداخلي والخارجي . والسؤال الآخر الذي يفرض نفسه هو: هل يمكن أن تكون هذه الجماعات التي تمارس القتل البشع في حق المختلف في الدين والطائفة والمذهب هي صناعة أنظمة من أجل تشويه الربيع العربي، ووقف عملية التغيير؟ كل شيء ممكن، خاصة من طرف هذه الأنظمة، أنظمة الخزي والعار، فهي مستعدة أن تضحي بكل شيء في سبيل بقائها في سدة الحكم، والمشهد السوري ماثل أمام أعيننا، فمن أجل عيون الأسد وعصابته يشرد شعب ويدمر وطن.