بقلم: الأستاذ التهامي مجوري** إن الأخلاق في أصولها إما أن تكون دينا أو بقايا دين من الديانات السماوية أو الوضعية وهي من جهة أخرى ذات علاقة بجوهر التجربة التاريخية التي تعد من أهم مصادر الإنسان في فهم الكون والحياة على خلاف واقع العالم اليوم الذي تحكمه منظومة قيمية أخرى تختلف كل الاختلاف عما ألف الإنسان من قيم في حياته وفي تعامله مع الكون والحياة ولم يبق مما ألف الإنسان شيء إلا بقايا في المجتمعات الشرقية التي لا تزال تعتمد الدين والعرف والتقاليد في معاملاتها ولكن ضغط الحضارة الغربية على هذه المجتمعات لم يسمح لها إلا بالنزر اليسير من تأثير ثقافتها الموروثة على واقعها بسبب مطاردات الحداثة والعصرنة والعولمة لكل موروث ثقافي علمي ديني أخلاقي والمجتمع الجزائري لا يخرج عن هذه المنظومة التي فرضت نفسها بقوة الغلبة الحضارية على كل من كان خارج المركزية الغربية في ظل الاستعمار ثم في حركة الاندماج والعلمنة واللادينية وأخيرا بضعف منظومة الدولة الوطنية ولو حاولنا تقييم المسألة الأخلاقية في المجتمع الجزائري بعد الاستقلال لوجدنا أن الجزائري عاش خلال فترة الاستقلال [1962 - 2015] ردة متفاوتة المستوى ولكنها في تقهقر مستمر وانحدار متواصل على خلاف الفترة الاستعمارية التي كان فيها المجتمع -رغم الفقر والجهل والضعف- متماسكا بسبب رفضه للاستعمار وتنكبه لكل ما يأتي منه فحافظ بسبب هذا الرفض على وحدة منظومته الأخلاقية بدينها وأعرافها وأخلاقها بعد سقوط دولة الداي وهي منظومته التي عصمته من تقليد الفرنسي والتأثر بثقافته فبقي خلال 132 سنة منفصلا عن كل ما هو فرنسي لأنه قرر المفاصلة ابتداء ولم يجنح حتى لمجرد إمكانية ورود الخير من فرنسا أو الثقافة الفرنسية وقد سجل هذا المنحى الاجتماعي في مقولة تنسب لابن باديس رحمه الله وهي (لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله ما قلتها) ويمكن تقسيم هذه الردة والتقهقر إلى ثلاث مراحل أساسية تلمس فيها ملامح التخلي عن الأخلاق كقيمة اجتماعية تساعد على الاستقرار والتنمية المرحلة الأولى من 1962 إلى 1982 وهي المرحلة التي أُسِّس فيها للتحلل من الأخلاق كقيمة اجتماعية عاصمة للمجتمع من الانحراف شعورا من المجتمع أن استعادته للسيادة الوطنية تكفيه شر الخوف من مكائد الاستعمار وما يمكن أن يبث فيه من مفاسد والسيادة الوطنية من جهتها رغم أنها وضعت منظومة قانونية غنية بمستلزمات الحفاظ على المجتمع وقيمه ولكن الخطاب السياسي الاشتراكي يومها لم يكن مساعدا على تثبيت الأخلاق كقيمة مساعدة على الاستقرار والتنمية بل العكس هو الذي ساد يومها وهو أن الخطاب السياسي رغم وطنيته فإن المسحة اليسارية كادت تعريه من كل ما هو أخلاق والشاهد على ذلك خطاب الرئيس بومدين رحمه الله في لاهور عندما قال ما معناه أن الفقير ينبغي أن يغنى الآن ولا ينتظر إلى الجنة أو كلام في هذا المعنى صحيح أن الرئيس قال حقا فيما يتعلق بالإهتمام بالعدالة الاجتماعية ولكن العبارة المستعملة كانت تعبر عن نَفَس مجرد من الأخلاق حيث كان طرح الفكرة بمثابة الجنة مقابل الدنيا وكأن الجنة حقا مقابلة للدنيا أو أن الدنيا في مقابل الجنة في حين أن منظومتها الأخلاقية لا تفرق بين الأمرين لأن طلب الآخرة يحث على الاعتناء بالدنيا أيضا (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة وتنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن إليك) في هذه المرحلة لم يتجرد المجتمع الجزائري من الأخلاق كلية وإنما بدأت تدب في مفاصله بعض القيم المضادة للأخلاق كالتخلي عن المسؤولية الفردية فلم يعد يشعر المواطن أن عليه واجبات كما كان يشعر بها في الفترة الاستعمارية وإنما ألقى بكل الواجبات على عاتق الدولة بما في ذلك ما كان يعتقد أنها على عاتقه هو والسلطة لم تشعر المواطن بضرورة تحمل تلك الواجبات في البناء الوطني وكأنها كانت تريد مكافأته على ما بذل في إنجاح الثورة ومن ثم بقي المواطن يتحرك تحركا بطيئا في إطار نشوة الاستقلال والدولة الوطنية وكفى فتخلي المواطن عن شعوره بالواجب تجاه القضايا الشخصية والوطنية في جميع المجالات فأكسبه ذلك قيما أخرى مضادة للأخلاق لأن عدم الشعور الواجب في أمر ما يؤدي إلى ضياع حقوق ما وضياع الحقوق يفضي إلى الخروج عن القانون والخروج عن القانون له أشكال متعددة ومتنوعة منها التحايل الكذب الوصولية المحسوبية الرشوة نهب المال العام وبالمختصر المفيد استشراء الفساد ولكن بحكم أن التخلي عن الواجب لم يكن طفرة واحدة فقد تخلى المجتمع الجزائري عن الأخلاق بقدر ما ترك من الواجبات الفردية تحديدا شيئا فشيئا إلى أن استشرى وصعب التحكم فيه المرحلة الثانية وتمتد من 1982 إلى 1992 وهي المرحلة التي تجرد فيها المجتمع من قيمه الأخلاقية كمرجع في التعامل ورغم أن خطاب الحركة الإسلامية في هذه المرحلة -مرحلة الصحوة- كان هو الخطاب المعول عليه في إعادة الأخلاق إلى المجتمع فإن الحركة الإسلامية استدرجت إلى معارك أخرى أيديولوجية وسياسية آنية فتحولت من معركة قيم وهي معركة حضارية وصراع غربي إسلامي إلى معركة سلطة معركة جزئية لا هم لها إلا تصفية الحسابات الحزبية الجزئية في غياب ناظم أخلاقي يجمع بين فئات المجتمع في هذه المرحلة تحلل المجتمع من الالتزام الاخلاقي نهائيا سواء بتعويض الأخلاق بالقانون ومن ثم ما أمكن التحايل عليه بالقانون أضحى غير معيب أخلاقيا أو باسم السلطة وفرض القانون ومن ثم تبييض ساحة السلطة في إذلال خصومها أو باسم الشرعية الثورية لدى المجاهدين الذين يمثلون واجهة الوطنية والشرعية الدينية للإسلاميين الذين يشعرون أنهم يمثلون أحكام الله فيما يطرحون من قضايا والشرعية السياسية للمعارضة التي تعتبر نفسها الثقل الموازي للسلطة في ترشيد المجتمع وهي شرعيات لا علاقة لها بالأخلاق إلا بالقدر الذي يقره المجتمع وهو ما سنلاحظ آثاره الوخيمة على المجتمع في المرحلة الثالثة والأخيرة المرحلة الثالثة وتمتد من 1992 إلى 2015 وهي مرحلة التفسخ التي تحلل فيها المجتمع من جميع التزاماته بسبب فقدانه التدريجي لأهمية الفعل الأخلاقي في منظومته وقد ظهرت آثار ذلك خلال الأزمة التي مرت بها البلاد خلال 1992/1999 ولذلك لما وقع انفجار سنة 1992 وقع ما لم يكن يتخيله أحد جزائري ولا أجنبي لأن ما وقع لا يقع عادة إلا في الحروب بسبب انقلاب المفاهيم عند الجزائريين أنفسهم وبسبب تجردهم من القيم الأخلاقية التي كان عليها قبل ثلاثة عقود مثلا فتمددت المعاني الجزئية الفئوية التي لا تتسع للكل عادة وأخذت موقع الصدارة في الحراك السياسي والاجتماعي فمفهوم الحفاظ على البلاد مثلا تراه كل فئة وفق منظورها الفئوي أو الجزبي ومن ثم فقد تحركت الفئات وفق ما تراه من منظورها الجزئي وما تراه الفئة قد يختلف عما تراه فئة ثانية وما يراه فريق قد يختلف عن فريق آخر وهكذا ولذالك رأينا من حمل السلاح ورأينا من فضل الحوار ورأينا من رأى إبادة الخصم هي الحل وطامة الطوام انشغال الأمة بمعالجة الأعراض عن الأمراض فاختزلت مشكلات الأمة كلها في مجرد أزمة سياسية وحصرت فيها في حين أن الأزمة السياسة ليست إلا عرضا من أعراض المسألة الأخلاقية التي هي جوهر أزماتنا سواء في الجزائر أو في غيرها لأنها تمثل عمق المسألة الحضارية التي تضعنا أمام حقيقة المواجهة الفعلية المنطلق في أي إصلاح وعندما يتضح لنا في هذه الوقفة العاجلة كيف تخلى هذا المجتمع الثوري عن قيمه الأخلاقية التي تعد الثورة من أهم مظاهرها؟ ندرك أن معالجة المسألة الأخلاقية هي المنطلق في أي إصلاح لا شك أن هذا الانحراف الأخلاقي الذي وقعت فيه الجزائر ليس خيارا حرا وإنما ساهمت فيه ضغوطات المنظومة الدولية البراغماتية التي تحكم العالم كما أشرنا في بداية هذا الحديث ولكن القرار الاجتماعي الوطني يمكن صياغته بخيارات وطنية فمثلما نشأت الحركة الوطنية على مكونات جامعة قبل الاستقلال وأنجبت ثورة رغم أن ذلك كان في جو الميثاق الاستعماري يمكن صياغة منظومة أخلاقية جديدة لإعادة ما فقد المجتمع من قيم كقاعدة وأرضية للإصلاح وأول ما ينبغي استحضاره في عملية الإصلاح وأخلقة المجتمع هو أن للمجتمع التزامات اجتماعية وسياسية تجاه نفسه وهذه تكفي فيها التوعية الوطنية عبر حملات التثقيف وصياغة البرامج الإعلامية والتنموية وإشراك المجتمع في كل ذلك بحيث ينخرط الكل في إعادة صياغة الواقع والتزامات حضارية تجاه غيره ينبغي أن يشعر بها وبما بينه وبين هذا الآخر من فوارق عقدية وثقافية وسياسية ومواطن الالتقاء مع هذا الآخر على المجتمع أن يعرف نفسه وفي الأخير على المجتمع أن يعرف نفسه لأن المجتمعات الناجحة هي المجتمعات التي تمتلك في حيويتها وحركيتها فضول الأطفال ولعبهم وحيوية الشباب واندفاعه وتلاحمه وتكاتفه وتعقل الكهول وترددهم وخوف الشيوخ واحتياطاتهم للمستقبل وعندما يعجز المجتمع عن الارتقاء إلى هذا المستوى الجامع فإنه لا يسعه إلا أن ينحصر في مرحلة من تلك المراحل مجتمعا في مرحلة الطفولة أو في مرحلة الشباب أو في مرحلة الكهولة أو في مرحلة الشيخوخة وإذا كانت أعمار الأفراد بما تتميز به كل مرحلة فبمرحلة الطفولة تتميز باللعب والفضول والأنانية المفرطة ومرحلة الشباب تتميز بالاندفاع والانخراط في الكل الجماعي والكهولة تتميز بالتردد والشيخوخة يغلب عليها العجز فضائل ترى نتائجها في تفاعل الإنسان مع الطبيعة فإن توقف مجتمع ما عند مرحلة من هذه المراحل يعد منقصة لأنه لا يعقل أن يكون مجتمعا لاعبا لاهيا كما يلعب الأطفال أو مجتمعا مندفعا متهورا كما يندفع الشباب ويتهورون أو مجتمعا مترددا أو ضعيفا خائفا لا طموح له وأفق