يستدعي ما حدث أمام كنيسة القدسيين في الإسكندرية في مصر، الحوادث المأساوية الذي يتعرض لها المسيحيون في العراق، ولكنه أيضاً يستدعي جريمة القتل المؤلمة لمروة الشربيني في ألمانيا في عام 2009، ويستدعي عمليات التعصب التي تتعرض لها الأقلية المسلمة في أوروبا والولايات المتحدة والتي تمتد إلى الضرب والاعتداء الجسدي والحظر الكامل لبعض الرموز الإسلامية والإهانة المستمرة لرموزهم المقدسة تحت شعار "حرية التعبير"، في الحقيقية كل هذه الأحداث تشد انتباهنا إلى أن العنف لا يمكن أن يُجزأ سواء كان دموياً مادياً بالقتل أم نفسياً بالاهانة، وأنه في الحقيقة ما يحدث لا يمكن أبداً اختزاله في تعرض المسيحيين في المشرق إلى الإبادة أو التهجير الجماعي كما تتجه إلى ذلك بعض وسائل الإعلام الأجنبية حالياً، فالأمر في الواقع هو تعرض الأقليات الدينية إلى خطر حقيقي يستهدف بقاءها وهويتها في البلاد التي تعيش فيها. وهنا يمكننا أن نضع المسؤولية على أربع جهات: فهذه الأحداث تثبت أن معادلة "الاستقلال والاندماج" التي يجب أن تقوم بها الدولة في مواجهة الجماعات الاجتماعية في المجتمع قد أثبتت فشلها، فالدول العربية غير الديمقراطية ببساطة تقوم بإدماج جماعات رجال الأعمال على حساب الفئات الوسطى والدنيا في المجتمع من المسلمين والمسيحيين تاركة المجال مفتوحاً للجماعات المتشددة وصاحبة الخطابات الراديكالية من كلا الطرفين بالعمل بحرية في الفضاء العام. الأمر الذي أدى إلى انجذاب هذه الفئات -والتي تمثل الأغلبية- إلى مثل هذه الخطابات وشعورها بأنها تمثل مصالحها وبالتالي انقسم المجتمع المتعدد إلى طوائف دينية واضحة وانقسمت هذه الطوائف بدورها على نفسها إلى طوائف فسيفسائية يكفر بعضها بعضاً، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تهديد العيش المشترك بين كافة شرائح المجتمع. وعلى الجانب الآخر، تقوم الدول الديمقراطية في أوروبا والولايات المتحدة بالاستقلال الكبير وليس المطلق عن الجماعات الاجتماعية رافضة وجود الديني في الحياة العامة وموجهة الاتهام المستمر للدين الإسلامي باعتباره "غير مناسب للوجود في البيئة الغربية" بل و"متعارض بالكلية معها" وهنا تقوم بالتأييد غير المباشر للخطابات الراديكالية من جماعات الخوف من الإسلام "الاسلاموفوبيا" وأحزاب اليمين، وحتى في قيامها بالبحث عن حلول لإدماج الأقلية المسلمة فهي تستخدم خطابها الغربي في تعريف "الاندماج" والذي في حقيقة الأمر هو "استيعاب" وشتان بين المصطلحين. وبالتالي تقوم بإشراك من تراهم الأقرب لها في مشاريع "إندماج الأقلية المسلمة" مستبعدة بذلك المؤسسات والشخصيات الأكثر تأثيراً والأكثر قرباً من فئات الأقلية وبالتالي فهي تعمل بكثافة مع المؤسسات التي يرأسها مهاجرون يستخدمون أساليب غير فعالة في الاعتماد على النظام الحاكم وعدم وجود علاقات مباشرة مع جماهير الأقلية، مستبعدة في ذلك المواطنين الأصليين المعتنقين للإسلام والذين يمثلون الآن حقيقة على الأرض لا يمكن تجاهلها، والذين يحملون في أذهانهم الطريقة الأوروبية أو الأمريكية في التعامل مع التحديات، وينطلقون من أفكار ديمقراطية تعمل على التغيير من الداخل (داخل الأقلية المسلمة) إلى الخارج (الأغلبية)، من الأسفل إلى الأعلى. وتقع أيضاً على جماهير الأغلبية سواء في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية مسؤولية احتضان الأقلية سواء كانت من المواطنين الأصليين أو المهاجرين، حيث أن عدم الاكتراث بحال هذه الأقلية والشعور بالارتياح باعتبارهم أغلبية هو في الحقيقة يعد خطأ جسيما تقع فيه الأغلبية، إن اتجاه الأغلبية المسلمة في الدول العربية إلى تجاهل شكاوى الأقلية المسيحية لن يؤدي في الحقيقة إلا إلى زيادة تفسخ عُرى النسيج الوطني الداخلي. وكذلك على الجانب الآخر، اتجاه الأغلبية في أوروبا والولايات المتحدة إلى الانسياق وراء خطاب أحزاب اليمين ومبادراته المقيدة للحرية الدينية للأقلية المسلمة لن تؤدي إلا إلى زيادة العداء للأقلية المسلمة وزيادة استبعادها من الاندماج الفعال في المجتمع، وستؤدي أيضاً بالضرورة إلى زيادة تأييد الخطابات المتشددة تجاه الأقلية المسيحية في الجنوب وزيادة أنصارها كرد على سياسات أحزاب اليمين وأنصاره. ومن ناحية ثالثة، تقع على الأقليات المسيحية والمسلمة مسؤولية أيضاً، فتحدي الثقافة السائدة في المجتمع من خلال المطالبة بإزاحة نصوص دينية أو نصوص دستورية أو من خلال فرض نظم دينية لا تنتمي للمجتمع والنظم المجتمعية فيه كلها ممارسات تؤدي إلى زيادة مساحات التوتر مع الأغلبية والتي ترى في مثل هذه الممارسات تهديداً لهويتها السائدة ولأنظمتها المستقرة. وأخيراً، تلعب وسائل الإعلام دوراً جوهرياً في نشر جو التعصب بين طوائف المجتمع من خلال ما تتبناه من خطابات طائفية ومصطلحات غير واعية وغير دقيقة تقوم إما على جهل القائمين بها بالخصوصية الثقافية للأقليات، أو تجاهلها لمسؤوليتها الاجتماعية تجاه أبناء الوطن الواحد، وبالتالي تشكل وعي الجماهير تشكيلاً طائفياً انقسامياً، مكرسة بذلك ثقافة الاستبعاد، فكل من لا ينتمي للجماعة الدينية الضيقة يعد جسما غريبا، وبالتالي تتناسى في خطابها الهدف المجتمعي المشترك والأمن القومي المشترك في سبيل أهداف مادية قصيرة الأجل بلا شك. إذن يخطئ من ينظر إلى ما حدث في مصر والعراق مؤخراً أنه استهداف للمسيحية في الشرق، فالأبحاث العلمية تؤكد انحسار المسيحية في الدول الغربية كديانة، واستقرارها في بلاد الشرق. ويخطئ من ينظر إلى الأقلية المسلمة في أوروبا على أنهم مجموعة من المهاجرين، فالتقارير تشير إلى زيادة أعداد معتنقي الإسلام من أبناء الدول الأصليين ليصل على سبيل المثال معتنقي الإسلام من البريطانيين في سنة 2010 إلى 5200شخص. إذن نحن نتحدث عن مواطنين في كلا الحالتين لديهم حقوق في العيش الآمن المستقر وممارسة شعائرهم دون تقييد ودون استبعاد من المشاركة المجتمعية في كافة مؤسسات الدولة، وعليهم على الجانب الآخر واجبات احترام الثقافة السائدة والمشاركة في بناء مجتمعهم دون الانعزال والاستقواء بالخارج لمواجهة الداخل سواء على مستوى الخطاب المتبنى أو على مستوى الأفعال. * مديرة مكتب البرامج الثقافية بمؤسسة مدى للتنمية الإعلامية في مصر، ومديرة برنامج الدين والإعلام بمؤسسة ريليجزكوب في سويسرا. * فقرة: إن اتجاه الأغلبية المسلمة في الدول العربية إلى تجاهل شكاوى الأقلية المسيحية لن يؤدي في الحقيقة إلا إلى زيادة تفسخ عُرى النسيج الوطني الداخلي. وكذلك على الجانب الآخر، اتجاه الأغلبية في أوروبا والولايات المتحدة إلى الانسياق وراء خطاب أحزاب اليمين ومبادراته المقيدة للحرية الدينية للأقلية المسلمة لن تؤدي إلا إلى زيادة العداء للأقلية المسلمة وزيادة استبعادها من الاندماج الفعال في المجتمع، وستؤدي أيضاً بالضرورة إلى زيادة تأييد الخطابات المتشددة تجاه الأقلية المسيحية في الجنوب وزيادة أنصارها كرد على سياسات أحزاب اليمين وأنصاره. * يخطئ من ينظر إلى ما حدث في مصر والعراق مؤخراً أنه استهداف للمسيحية في الشرق، فالأبحاث العلمية تؤكد انحسار المسيحية في الدول الغربية كديانة، واستقرارها في بلاد الشرق. ويخطئ من ينظر إلى الأقلية المسلمة في أوروبا على أنهم مجموعة من المهاجرين، فالتقارير تشير إلى زيادة أعداد معتنقي الإسلام من أبناء الدول الأصليين ليصل على سبيل المثال معتنقي الإسلام من البريطانيين في سنة 2010 إلى 5200شخص.