إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون هكذا جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان يبدأ عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد استشهاد عمر رضي الله عنه في غرة محرم عام 24ه حيث بويع بالخلافة بعد دفن عمر بن الخطاب بثلاث ليال وقد اتسعت الفتوحات في زمنه رضي الله عنه وكثر العمران وتفرق المسلمون في أرجاء البلاد الإسلامية وأقطارها ونشأ جيل جديد وطال عهد الناس بالرسول والوحي. وكان أهل كل إقليم من أقاليم الإسلام يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة فكان أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب رضي الله عنه وأهل العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيرهم يقرؤون بقراءة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. فكان بينهم اختلاف في حروف الأداء ووجوه القراءة بصورة فتحت باب الشقاق والنزاع في المسلمين في أمر القراءة أشبه بما كان بين الصحابة قبل أن يعلموا أن القرآن نزل على سبعة أحرف بل كان هذا الشقاق أشد لبعد عهد هؤلاء بالنبوة وعدم وجود فيصل بينهم يطمئنون إلى حكمه ويصدرون جميعًا عن رأيه واستفحل الداء حتى خطأ بعضهم بعضًا وكادت تكون فتنة في الأرض وفساد كبير.
بواعث الجمع في عهد عثمان بن عفان الباعث الأساس في جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه هو استدراك اختلاف القراء في وجوه قراءة القرآن الكريم وتخطئه بعضهم البعض بل وصل الأمر -أحيانًا- إلى تكفير بعضهم البعض فأراد رضي الله عنه جمع الأمة على مصحف موحد مجمع عليه. روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدَّثه أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدِمَ على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزَعَ حذيفة اختلافُهم في القراءة فقالَ حذيفة لعثمان: (يا أميرَ المؤمنينَ أدركْ هذه الأمةَ قبلَ أن يختلِفُوا في الكتابِ اختلافَ اليهودِ والنصارى). فأرْسَلَ عثمان إلى حفصة رضي الله عنها أن أرسلي إلينا بالصُّحف ننسخُها في المصاحفِ ثم نردُّها إليكِ. فأرسلتْ بها حفصة إلى عثمان فأمَرَ زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وأخرج ابن أبي داود من طريق أبي قلابة أنه قال: (لما كانت خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل والمعلم يعلم قراءة الرجل فجعل الغلمان يتلقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين قال أيوب: لا أعلمه إلا قال: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض فبلغ ذلك عثمان فقام خطيبًا فقال: أنتم عندي تختلفون وتلحنون فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافًا وأشد لحنًا اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوه للناس إمامًا . وأخرج ابن أبي داود من طريق سويد بن غفلة الجعفي قول علي رضي الله عنه: (يا أيها الناس: لا تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيرًا فو الله ما فعل الذي فعل المصاحف إلا من ملأ منا جميعًا فقال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك وهذا يكاد أن يكون كفرًا قلنا: فما ترى؟ قال: نرى أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف قلنا: فنعم ما رأيت. قال: قال علي: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل). لهذه الأسباب والأحداث رأى عثمان بثاقب رأيه وصادق نظره أن يتدارك الأمر فجمع أعلام الصحابة وذوي البصر منهم وأجال الرأي بينه وبينهم في علاج هذه الفتنة فأجمعوا أمرهم على استنساخ مصاحف لإرسالها إلى الأمصار فيؤمر الناس باعتمادها والتزام القراءة بما يوافقها وبإحراق كل ما عداها وتعتبر تلك المصاحف العثمانية الرسمية الأساس والمرجع المعتمد لحسم الخلاف وقطع النزاع والمراء.
لجنة جمع القرآن في العهد العثماني وتوقيته وقع خلاف في عدد اللجنة المكلفة بالجمع في العهد العثماني فقيل: هم خمسة: زيد وابن الزبير وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص عبد الرحمن بن الحارث. وقيل: هم اثنا عشر رجلًا من قريش وأنصار فيهم أبي .. . وفي بعض الآثار: يملي سعيد ويكتب زيد. غير أن ما عليه الجمهور أنهم أربعة: زيد بن ثابت من الأنصار وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام (الثلاثة من قريش). فهؤلاء الأربعة هم الذين كوَّن عثمان بن عفان لجنة منهم وعهد إليهم تنفيذ قرار نسخ المصاحف. قال الحافظ ابن حجر: وكان ذلك في أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة 25ه وهو الوقت الذي ذكر أهل التاريخ أن أرمينية فتحت فيه. وذهب العلامة ابن الجزري وابن الأثير إلى أن الجمع العثماني كان في 30ه والأول أصح .
كيفية الجمع العثماني أرسل عثمان إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها فبعثت إليه بالصحف التي جمع القرآن فيها على عهد أبي بكر رضي الله عنه وتسلمت اللجنة هذه الصحف واعتبرتها المصدر الأساس في هذا الخطب الجلل ثم أخذت في نسخها حسب الدستور الذي وضعه لهم عثمان رضي الله عنه حيث قال للقرشيين الثلاثة: (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم). وفي الترمذي قال الزهري: فاختلفوا يومئذ في (التابوت والتابوه) فقال القرشيون التابوت وقال زيدٌ التابوه فرُفعَ اختلافهم إلى عثمان فقال اكتبوه التابوت فإنه نزل بلسان قريش). وكان ما ذكر من منهجهم أنهم كانوا لا يكتبون شيئًا في هذه المصاحف إلا بعد ما يتحققون منه أنه قرآن متلوّ وغير منسوخ وذلك بعرضه على حملته من قراء الصحابة أما لو ثبت نسخ شيء من ذلك تركوه وهو الذي يسمى اليوم: ب (القراءات الشاذة).