عام 1887م وبأحد أحياء قصر غرداية العتيقة وفي زمن عم الجهل ربوعها الطاهرة وفي عصر العالم المرحوم الشيخ حمو باباوموسى خرج إلى الوجود الصبي أحمد بن عيسى بن دادي قزريط أو قزريض كما ورد في بعض الوثائق التاريخية ليكون للشيخ باباوموسى كهارون لموسى عليه السلام وفي عائلة مؤمنة ملتزمة ومحبة للعلم ومن عشيرة ماجدة تدعى آث أمحمد... كانت نشأة الابن باحمد حيث تشبع بمبادئ الإسلام وبقيم الدفاع عن حياضه.. وجاء من رحم آل قزريط المحافظة هذا الفتى الشغوف بالعلم فتلقى أولى أبجدياته وبداياته من كتاتيبها المحاضر حيث كان ذا همة عالية وفطنة ملفتة وحضور ذهني قوي وشموخ يحاكي شموخ جبل موسى بوكراع الذي كان والده دادي يرعى شياهه حوله ويسترزق مما تخرجه أرض أجداده بتلك الواحة الجميلة ومن تلك البساتين الغناء بالشعبة. وضع الفتى باحمد رؤيته وقرر أن يكون عالما ومما ساعد في بروز شخصيته التواقة للعلم اكتشاف والدته ووالده دادي هذا الشعور لابنهم البكر حيث كان قرة عينهما فدللوه كثيرا حتى يتفرغ للعلم في حين كان شقيقه الأصغر منه داود يتكفل بسقي المزرعة وجلب المياه من الآبار ومساعدة والدهما بينما الابن باحمد تفرغ لحفظ القرآن واستظهاره فكان النبوغ باكرا لتتحقق بفضل الله أمنية الوالدين. انضمّ إلى حلقة إيروان في سن مبكرة أيضا ثم انضم إلى الحلقات العلمية للتفقه في علوم الشريعة وفنونها التي يقيمها بالبلدة العالم الشيخ حمو باباوموسى ولما رأى الشيخ حمو باباوموسى شغف وحب تلميذه باحمد للعلم أخذ بيده وجعله مرافقا لحلقات قطب الأئمة الشيخ الحاج أمحمد بن يوسف اطفيش لينهلا - معا - من معينه الصافي ويستزيدا من خزائن هذا العالم الكبير ومما فتح الله عليه من الفنون والمعارف وبعد أن شبّ الشيخ حزم أمتعته التحق بالبعثة الميزابية بتونس الخضراء باقتراح من بعض مشايخه هناك بعد وفاة القطب... شدّ الرّحال إلى جامع الزّيتونة للتبحر في العلوم الدينية والدنيوية ومواكبة مجالس العلم مزاحمة العلماء بركبتيه إذ لا هدف له سوى طلب العلم والكد في التحصيل.. في ظروف أقل ما يقال عنها إنها كانت صعبة جدا ناهيك عن شظف العيش... وقد كان ملازما طيلة الفترة لعميد الصحافة الجزائرية الشيخ أبي اليقظان الحاج ابراهيم بن عيسى كما يقول في كتابه المخطوط ملحق السير: كان مساعدنا في تحمُّل مسؤوليات البعثة ومن زملائه في البعثة: السادة الحاج عبد الله بغباغة والحاج احمد مصباح وبوعروة بابا بن إبراهيم والشيخ الحاج يوسف ببانو والشيخ يوسف بن بكير كما لازم في رحلته العلمية كبار مشايخ جامع الزيتونة أمثال الشيخ الطيّب أسياله والشيخ محمد الزّغواني .. وغيرم. له باع طويل في علم الفرائض والمواريث مع سعة اطلاع في الفقه والعلوم فنبغ في علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة وعروض وقد كان للشيخ حظ وافر من علم التجويد الذي درسه وتعلّمه على يد الشيخ ابن زرطي كما كان فنّانا لامعا كثيرا ما أنشد وأطرب الحاضرين بصوته العذب الّرّخيم في الحفلات الدّينية التي كان يقيمها الطّلبة والجماعة بتونس. ثم صار منشدا دائما للمولودية حول السيرة النبوية بمسجد الشعبة بغرداية في بداية شهر المولد إلى غاية ليلة مولد خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم لما أوتي من صوت شجي حيث لقبه الشيخ أبو اليقظان الذي عاصره في تونس بمزمار سيدنا داوود عليه السلام. يذكر أنه كان من الأعضاء البارزين في فرقة الموشحات الراشدية بتونس. فقيه من نوع خاص بعد فراغ الشيخ أحمد من دراسته في تونس وتلقّي العلوم من مشايخها عاد إلى أرض الوطن محملا بالعلوم وفي حقيبته شهادة التطويع التي تعادل الدكتوراه في عصرنا الحالي.. وبعد أن حاز على الإمكانات التي تؤهّله ليكون رجل عمل وميدان اختاره الشّيخ أحمد بن بنوح مصباح رحمه الله قاضيا في محكمة قسنطينة الإباضية وكان مدرسا ومعلما لابنه الشيخ بنوح فكان الشيخ قزريط مثلا في الصّدق والنّزاهة والإخلاص وإضافة إلى ذلك العمل كان الشيخ يلقي دروسا ليلية بدار النّعاليف بقسنطينة للتّلاميذ المتمدرسين في المدارس النّظامية. وممّا يروى عن الشيخ قزريط أنّه لما كان يرتاد تونس يمر بمدينة قسنطينة كمحطة للراحة وأثناء هذه التنقلات العديدة اكتشفه العلامة ابن باديس فقربه إلى مجلسه وصار من تلامذته وملازميه ومساعديه في التدريس فإذا ما وجّه العلّامة سؤالا في علم النّحو يجد التلميذ المجتهد الحاذق له بالمرصاد حيث يقدّم له الجواب الصّحيح الصّائب فيقدّم له الشيخ ابن باديس بدوره الشكر الجزيل والثّناء الحسن حتى لقبه بسيبويه الجزائر.. ودامت هذه العلاقة العلمية وتوطدت بالعطاء الفكري وكان الشيخ قزريط جسر تواصل بين الشيخ ابن باديس ومشايخ الزيتونة مما جعل الشيخ ابن باديس يعلق آماله به ويقلده بعد تخرجه من الزيتونة وتوليه وظيفة القضاء بمحكمة الإباضية بقسنطينة منصب أستاذ مساعد باش عادل له فيما يخصّ تدريس البلاغة والنحو والصرف والفقه المقارن نظرا إلى ضلوعه في الفقه المالكي فكان يؤم الناس بعد انتهاء حلقة الدرس دون حرج رغم إباضيته وكان مساعدا له في مشروعه الإصلاحي الذي قام به الشيخ ابن باديس في الجزائر.. ولمّا قضى الشّيخ حوالي عشر سنوات يتنقّل فيها بين قسنطينة وواد ميزاب اُستدعي ليزاول مهامّه بعاصمة المزابيين في محكمة غرداية الإباضيّة ليشغل منصب باش عادل تحت رئاسة القاضي بابا بن الحاج داود طبّاخ كان لابد للشيخ قزريط أن يستقر بمسقط رأسه بعد ما شدت الأمور وتأزمت في مسجد العتيق وفي القيادة الروحية للبلدة ولأسباب لا نعلمها جعلت الشيخ حمو العالم الفقيه يترجل ويترك الجمل بما حمل ويلتزم منزله ويقاطع العتيق فبقي لأكثر من خمس سنوات في ظلام دامس فقرر عقلاء البلدة ووجهاؤها تطعيم حلقة العزابة وسريعا بالترسانة العلمية القادمة من تونس تحت إشراف الشيخ القاضي بابا بن الحاج داود طبّاخ وفي تلك المرحلة صار العتيق تحت تسيير آل عمي عيسى أي عشيرة آل محمد هكذا أنقذ المسجد العزابة الجدد فكان للشيخ باحمد قزريط نشاط اجتماعي دؤوب حيث صار من أعيان البلدة ووجهائها. وكان يلقي الدّروس ويفسّر العلوم ويبسّطها للعوام باللهجة المحليّة فذاع صيته حيث إنّ المسجد يمتلئ بمن فيه حينما تكون ليلة إلقاء الشيخ للدرس وأول درس كان في التفسير بحضور الشيخ عمر بن إبراهيم بيوض الذي كان متابعا باهتمام كبير لمسيرة النهضة التي قام بها الشيخ قزريط ورفاقه.. الشيخ بابا طباخ عميد المسجد والشيخ عبد الله بغباغه والشيخ احمد مصباح كل في تخصصه. فكان كثير التنقل لما كان بقسنطينة بين قرى ومدن الشرق لتصفية التركات. مزايا خاصة كان منزله بعمارته بنهج شارع فرنسا صالونا أدبيا وناديا ومنتدى للطلبة القادمين من تونس أو من ميزاب وكم من ندوات علمية وأدبية وحفلات أقيمت فيها من تنشيط الطلبة أمثال الأستاذ المناضل بوجناح الحاج سليمان الفرقد . من مزاياه لباقته ودهاؤه في تصريف الأمور عند استعصاء المشاكل وضيق الحلول ويعتبر المسير الحكيم لغرداية في عصره. كان من أوائل من أسس فن الإنشاد بالجزائر وقضى على أعراس العامة حسب الدراسات التاريخية وليس الشيخ بيوض هو من أسس هذا الفن في أواخر الثلاثينيات كما يعتقد وهي الدراسات التي أثارت جدلا واسعا في أوساط المهتمين بفن الإنشاد لأنها استدعت ضرورة مراجعة معلوماتهم المحصلة القاضية أن الإمام الترمذي هو أول من بدأ الإنشاد في الخمسينات من القرن الماضي. وتلت هذه المغالطات تزييف آخر من أبناء ميزاب للتاريخ على أن الشيخ بيوض هو من أسس فن الإنشاد. كان أول من أسس المدرسة القرآنية العلمية الحديثة بغرداية حيث أنشأها في عاصمة مزاب وفي أحد أحياء غرداية العتيقة بوكحلة ولكنها لم تدم طويلا حيث وشى به عملاء فرنسا وأذنابها من عامة الشعب فتم تشميعها وغلقها وبعد ذلك فكر المهتمون بشأن محاربة الجهل إنشاء جمعية تحت غطاء قانوني فأسسوا بعد تجربة مدرسة الشيخ قزريط ببوكحلة جمعية الإصلاح تحت أعين الشيخ أحمد قزريط ودون علم السلطات الفرنسية كون الشيخ موظف بالمحكمة الإباضية. - كان من طلبته ابنه إبراهيم والشيخ حمو فخار وآخرون لا يزيد عددهم عن العشرة. ولمّا أن صار الشيخ كهلا أصابه قبض في معدته بعد وليمة صلح ببلدة بريان خلال صائفة 1933 وبالضّبط في شهر أوت بناحية الغابة ولم يمهله المرض سوى أيام لتفيض روحه إلى بارئها وتلتحق بالرّفيق الأعلى وشيعت جنازته في جو مهيب وُوري الثّرى بروضة الشيخ عمّي سعيد الجربي وحضرالحاكم العسكري والسلطات المحلية وخُتمت هذه المسيرة النّضالية لرجل أفنى حياته لخدمة العلم رغم قصرها إلا أنها كانت حافلة بالعطاء وهكذا سجلت الذاكرة الجماعية لمزاب سيرة علم من أعلامها الكبار بحروف من ذهب وحمل أحد أحياء بلدة غرداية اسمه... في شموخ وعزة مذكرا الأجيال أنه مر ذات عهد من هناك... وآخر ما سجل أيضا بالذاكرة الدرس القيّم الذي ألقي في مشهد الوداع الأخير من فضيلة الشيخ حمو بابا وموسى مذكرا الحضور والمعزين فيه مناقب وفضائل شيخنا أحمد بن عيسى بن دادي قزريط.