حاوره: عده فلاحي " بعد بحث طويل في الفقه المقارن لم أجد فرقا بين المالكية والإباضية" شخصية هذا العدد من سلسلة " لقاء خاص" هي الشيخ شاب تواتي بن تواتي الذي لم يقعده حب العلم للالتحاق بالثورة وبعد استرجاع الجزائر لاستقلالها و سيادتها عاد الشيخ لمواصلة إشباع رغبته في طلب العلم، وفي الوقت الذي كان يدرس بإحدى المساجد بمسقط رأسه بالأغواط ويزاول مهنة التعليم، اجتهد في أن يتحصل على شهادة الليسانس في الحقوق ثم في الآداب ومن بعدها رسالة الماجستير والدكتوراه التي تحصل عليها سنة 2004، و رغم تقاعده القانوني سنة 1998 إلا أنه لم يبرح قاعات المحاضرات بجامعة الجزائر التي حرص القائمون عليها على أن يبقى بينهم يستفيدون من خبرته وعلمه و نقلها للأجيال من الطلبة الذين هم في أمس الحاجة للتواصل مع سلفهم الذي يمثل هويتهم الدينية والوطنية، كيف لا يكون ذلك وهو المتخصص في الفقه المقارن و بالتحديد حول المذهبين المالكي والإباضي، وهنا تكمن أهمية هذا اللقاء الذي جاء فعلا على موعد مع الفتنة الشيطانية التي عادت تطفو على السطح من جديد ببريان، والتي لبست لبوس التمذهب باطلا وزورا. وتعميما للفائدة وضعنا بين يدي القارئ الكريم مقالا ملحقا بهذا الحوار، وهو من تحرير ضيفنا اليوم بعنوان " لا فرق بين المذهب المالكي والفقه الإباضي" ، فتابعوا معنا: س) من هو الدكتور تواتي بن تواتي ؟ ج) اسمي تواتي بن تواتي من مواليد سنة 1943 بالأغواط، كانت أسرتي ذات علاقة طيبة بالزاوية الرحمانية ، هذه الزاوية التي كانت لها مكانة عند المشايخ الزوايا في ذلك الوقت وعندها سلطة أدبية عليهم، واحترام وتقدير ، فكان أبناء تواتي كلهم يلتحقون بالزاوية الرحمانية لحفظ القرآن الكريم، ولقد لعبت الزاوية الرحمانية وعلى رأسها الشيخ المرحوم الحاج الهادي دورا تربويا واجتماعيا هاما، حيث كانت مفتوحة لأبناء الفقراء و الموعزين، و قد كان والدي وجدي رحمهم الله يساعدون الحاج الهادي في عمله هذا، ومن عد حفظي للقرآن الكريم الكريم انتسبت للمدرسة الفرنسية" المدرسة الأهلية" و أنا ابن تسع سنوات تقريبا، وبهذه المدرسة أخذت مبادئ اللغة الفرنسية واستطعت أن أتدرج حتى تحصلت على ( BEPC ) ، و عند اندلاع الثورة التحقت بها سنة 1960 استجابة للنداء الوطني. س) هل كنت تتقاضى أجرا مقابل تدريسك للقرآن، قبل الالتحاق بالثورة؟ ج) لا أبدا..لم أكن أتقاضى أجرا، فلقد كفاني والدي ذلك لأن أسرتي كانت ميسورة الحالة وفي راحة من أمرها، ولقد كان عملنا بالأساس هو في سبيل الله لا نريد من ورائه لا جزاء ولا شكورا. س) قلت أنك التحقت بالثورة سنة 1960، بأي منطقة التحقت ومع من تعاملت؟ ج) حينها التحقت بالولاية السادسة (6) وقد كنت تحت إمرة المجاهد الملازم الأول محمد بن صولة الذي كان ينحدر من عين الصفراء، هذا و قد كان والدي موًالا، ساهم من جانبه ودون أن يتقاعس في دفع كل ما كان لديه من أموال لصالح الثورة. س) ما الذي دفعك للالتحاق بالثورة وأنت الذي كنت مشتغلا بطلب العلم؟ ج) لقد كانت وصية والدي هي أنه لو وافاه الأجل قبل تحقيق أمنيه، يجب أن آتي إلى قبره لأخبره بأن الجزائر قد استعادت استقلالها وهذا لإيمانه بهذه الحتمية، و قبل وفاته رحمه الله غرس فينا حب الوطن والوطنية، و تقريبا كل حفظة القرآن الكريم بالزاوية الرحمانية التحقوا بالثورة. س) أعود أدقق في سؤالي أكثر، هل تلقيت رسائل من جبهة التحرير الوطني تطلب منك الالتحاق بالثورة؟ ج) لا بد وأن أوضح لك أنني انسب لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1952 بالأغواط، و قد كان الشيخ بيوض رحمه الله وهو أحد شيوخ جمعية العلماء يفد إلينا بالأغواط ويلقي علينا دروسا حول المذهب المالكي، والشيخ بيوض نفسه هو الذي دشن مدرسة الشبيبة التابعة لجمعية العلماء المسلمين بالأغواط، هذا وقد كان الشيخ الأصولي أبوبكر عيس الأغواطي يخلف الشيخ عبد الحميد بن باديس في الجامع الأخضر ويخلف كذلك الشيخ البشير الإبراهيمي في كتابة افتتاحية البصائر، فالشيخ أبوبكر كما ذكرت لك هو الذي تتلمذت على يديه و أخذت العلم عنه وقد كان علامة زمانه علما وأدبا كما شهد له بذلك الشيخ الإبراهيمي والشيخ حماني رحمهما الله ، كما أنه كذلك خرس فينا قيم الوطنية و الإسلام ، بحيث أن كل الطلبة الذين كانوا بالزاوية الرحمانية وبمدرسة الشبيبة لتحقوا بالثورة و هذه شهادة أقدمها للتاريخ. س) عذرا سيادة الشيخ ، لا بد وأن استوقفك عند نقطة حساسة وهامة جدا، وهي أنك ذكرت بأن بمنطقة الأغواط كانت الزاوية الرحمانية إلى جنب مدرسة الشبيبة التابعة لجمعية العلماء المسلمين، بمعنى أن المدرستان كانتا في تعايش ولا يسجل أي تصادم أو تعارض بينهما ؟ ج) (( يبتسم الشيخ تواتي )) ..لا يمكن أن نسجل أي تصادم، وقد كان الشيخ مبارك الميلي رحمه الله كلما حل بالأغواط يقصد الزاوية الرحمانية ليصطحب معه شيخها إلى مدرسة الشبيبة و لم نشهد بينهما سوى الاحترام والتقدير، فجمعة العلماء المسلمين لم تكن لتحارب الزوايا لأنها زوايا، بل كانت تشجع الزوايا التي تعلم الطلبة القرآن وحب الوطن، و للتوضيح، جمعية العلماء كانت تحارب أذناب الاستعمار ممن كانو ينتسبون زورا وبهتانا للزوايا التي انحرفت عن دورها وعن رسالتها، والشيخ عبد الحميد بن باديس أول ما حلً بالمنطقة نزل بزاوية " طولقة" وهي مقر للزوايا الرحمانية، بمعنى أنه كانت علاقة أخوة و تعاون بين الزاوية الرحمانية ومدرسة الشبيبة. بعدما استعادت الجزائر استقلالها ، بقي الحنين يشدني إلى مواصلة طلب العلم وهي الرغبة التي كانت تملأ مشاعري و عقلي، فالتحقت إذن سنة 1962 بالتعليم الابتدائي فوجدت مفتش المدرسة هو شيخي أبو بكر الأغواطي رحمه الله والذي توفي غريبا و لم يلق التكريم الذي يليق به سواء أكان حيا أو ميتا، وبحكم أن الشيخ أبوبكر يعرف قدراتي وإمكانياتي، فلقد وجهني وشجعني في الاستزادة في طلب العلم وبالتالي هو الذي ساعدني وأرشدني في إتمام كتابي "المبسط في الفقه المالكي بالأدلة". بعد التعليم الابتدائي تدرجت في التعليم المتوسط ثم الثانوي و بعدها خرجت إلى التقاعد سنة 1998 و أنا حامل لشاهدة الليسانس في الحقوق و الآداب من جامعة الجزائر، وأثناء مرحلة التقاعد وبالضبط سنة 2000 حصلت على الماجستير حول بحث في النحو وأصوله بعنوان" الأخفش الأوسط وآراؤه النحوية" و قد أشر على هذا العمل رئيس مجمع اللغة العربية الدكتور عبد الرحمان حاج صالح، وبعده سجلت لرسالة الدكتوراه في القراءات التي ناتها سنة 2004 وقد كان عنوانها " القراءات وأثرها في النحو العربي والفقه الإسلامي"... كل هذه الأعمال أنجزتها وأنا في نفس الوقت اشتغل بالتعليم والتدريس في المسجد و قد قضيت حوالي 20 سنة بالتدريس في الجامعة. بالنسبة لمؤلفاتي فعندي ما يقرب 15 عنوانا : منها ثمان مطبوع وهي : " المبسط في الفقه المالكي بالأدلة" وألفية في أصول الفقه عملت على شرحها في ثلاثة مجلدات، وكتاب في" الفقه المقارن بين الفقه المالكي و الفقه الإباضي" في مجلدين وعندي كذلك " محارات في أصول النحو " " والمدارس اللسانية" و" مفاهيم في علم اللسان" " و المدارس النحوية" و" كتاب في التصوف" إلى جانب بعض الكتب التي جمعت فيها المحاضرات التي نشر في مجلة مجمع اللغة العربية و غيرها . س) لاحظنا من خلال عرض كتبك اهتمامك باللغة والنحو،ما مرد ذلك؟ ج) لقد رأيت من خلال دراستي أن الفقيه لا بد و أن يكون ملما بقواعد اللغة و النحو وأن يكون لى الأقل في مرتبة الأخفش الأوسط، وقبل ذلك كله النحو أصلا نشأ بين أحضان القرآن الكريم، وكل العلماء عندما يبدءون كتاباتهم يبدءونها بالحديث عن اللغة والنحو التي هي أدوات ضرورية لكل طالب علم والمعرفة. س)في أحاديث جمعتنا بك سيادة الشيخ كثيرا ما استشهدت بالشيخ بيوض رحمه الله , وبالتالي في ظل الفتنة التي تشهدها منطقة بريان وما يجري من نزاع سياسي وحزبي مبني على المصالح أكثر مما هو ديني أو مذهبي , كيف يمكن أن نستفيد من شخصية في مقام الشيخ بيوض كنموذج لإبراز التعايش التاريخي الذي ساد بين المذهب الإباضي والمالكي في بناء الوحدة الوطنية ؟ ج)إن الشيخ بيوض رحمه الله هو علامة عصره , ومن زعماء جمعية العلماء الملمين الجزائريين وقد كان يأتينا للأغواط ويحاضر فينا حول المنصب المالكي دون تعصب , والشيخ بيوض رغم تفرده في أخلاقه وموافقة إلا انه ترك ثلة خيره في جمعية الإصلاح الاباضية التي تأسست سنة 1929 وقد حاضرت بدوري أمام أبناء جمعية الإصلاح الاباضية ووجدتهم ضد هذه الفرقة وهذه الفتنة التي تريد أن تفرق بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد , وقد كلمني العديد من هؤلاء الإخوة بالقول أنهم يبرؤون مما يجري من أعمال في بالريان , وأمام هذه الأحداث كنا قد جمعنا جماعة من الإباضية و المالكية و قد قام الشيخ صالح البليدي وهو عمدة عندنا، جمع بين كل هذه أتباع الجماعة و بالمناسبة ذكرت لهم بحكم تخصصي في المذهبين أنني لم أجد هناك ما يفرق بين المذهب المالكي والاباضي , فكل الأحكام الفقهية متقاربة وما يجري من تطاحن هو إنما على الدينار و الدرهم متخذة التمذهب مطية لذلك وأمام ذلك قام أحد الاباضية وأقر ما قلته وقد استحسن الناس كتابي حول المذهب المقارن بين الاباضية والمالكية ، بل وطالب مني أحد الاباضية أن يطبع الكتاب على نفقته لينتفع به ولكن رفضت هذا العرض خوفا من أن يذهب هذا العرض الغرض من تأليف الكتاب حينما يتقول المتقولون ويؤولون الأمر في غير الاتجاه السليم . إن هدفي هو أن اجمع شمل الإخوة وتوحيد كلمتهم لأننا كلنا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وكلنا أبناء آدم وأبناء وطن واحد وهو الجزائر. س) بحكم معرفتك بمنطقة وادي ميزاب وبشيوخ الاباضية، هل لك أن تعطينا صورة عن سلوك من سلوكيات الشيخ بيوض التي تبرز معالم التسامح التي كانت يتحلى به ونبذه للتعصب وانفتاحه على إخوانه المالكية ؟ ج)اذكر واقعة وقد كتبها هو في فتواه ، وهو أن أحد المالكية عاب على آذان الاباضية فجاء أحدهم يشتكي بالقول أن هذا المالكي قد أعاب علينا و بأننا لسنا على حق في الآذان، فرد الشيخ البيوض رحمه على ذلك قائلا: يا هذا إننا لم نختلف في الأصول وإنما اختلفنا في الفروع ،فلنسامح بعضنا البعض في ذلك وبعد البحث الذي قمت به وجدت الاختلاف بين الآذان عند المالكية وعند الاباضية لا يكاد يذكر ،..والشيخ بيوض لبساطته وتواضعه ودماثة خلقه تراه حينما يتحدث مع الأعراب وكأنه واحد منهم، وإننا بحق نفتقر لأمثال الشيخ بيض رحمه الله . س) ألا ترى أنه وفي ظل هذه الظروف الصعبة التي مرت بها منطقة بريان وما جورها و بالتأكيد لها تداعيات سلبية على الجزائر وهي جزء لا يتجزأ منها, ألا ترى أنه أصبح لزاما اليوم تجنيد كل الطاقات والإمكانيات لإعادة قراءة الشيخ بيوض وإحياء تراثه وإبرازه لإشاعته في المجتمع بين الناس حتى نقضي على هذه الفتن المفرقة ؟ ج)إن الشيخ بيوض شخصية إسلامية عظيمة وإحياء عمله مهم وضروري ، أما قولكم أننا مستهدفون من جهات أجنبية فالجواب هو : نعم وأقولها بكل مرارة و حسرة ، يريدون أن يثيروا النعرات فيما بينا حتى نغرق في المشاكل التي تأخرنا ولا تدعنا نتقدم ونزدهر بعدما تفرق الصفوف وتشتتها, وهذا بعدما كنا موحدين طوال قرون طويلة ، و بالمناسبة ذكر وزير الشؤون الدينية و الأوقاف خلال مداخلته بملتقى المالكية من أن الدولة الرستمية الإباضية كانت تفتح المساجد للمناقشة بين أتباع المذاهب المالكية والاباضية ويفترقون بعد ذالك قد طبق من الود و المحبة ولكن للأسف خلف خلف ربما تشبع بأفكار غربية مستوردة هدًامة وذالك ما حدث و يحدث بسببها هذه الأيام في بلادنا و بالخصوص في منطقة بريان ،وفي هذا المقام أقول إنه على ولاة أمورنا حفظهم الله و رعاهم وزادهم بسطة من الدراية ،أن ينتبهوا لهذا المخطط الخطير الذي يستهدف الجزائر . س) بحكم اشتغالكم بالفقه المقارن و بالبحت الفقهي، ما هي قراءتكم لانتشار التيار السلفي ؟ ج) في تقديري المذهب السلفي الحق هو المذهب المالكي, نحن نعلم أن المدارس الفقهية مدرستان : مدرسة النظر التي يتبعها الإمام أبو حنيفة ومدرسة الأثر التي ينتمي إليها مذهب الإمام مالك وأتباعه , وحتى الأتباع الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد مثل الإمام الشافعي يبقى في خط الإمام مالك الذي تتلمذ على يديه ، بقي الآن ما يسمى بالفكر الوهابي أو السلفي ، فكلها أمور مستوردة. إن الأمر السلفي الذي حدث عندنا هو بقدرة قادر و هذا لان الأمر قد دخلته السياسة, فجبهة الصمود والتصدي التي تأسست بالجزائر كانت ذريعة لإحداث فتنة بالجزائر لإضعافها و بموجب ذالك تم استجلاب العديد من الأفكار و المذاهب التي جعلت منا ننشغل ببعضنا البعض على حساب التنمية ولكن والحمد لله قيض الله لهذه البلاد السيد رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة الذي أخرجنا من عنق الزجاجة الذي كنا نعاني منه وخلًصنا من عبودية الديون التي سددها ...السلفية عندنا ليس المقصود منها هي تلك السلفية التي تحيي الأثر الصالح وإنما هي سلفية سياسية مخربة ولا تبغي إصلاحا, فالسلفية الحقة هي التي تحترم السلف الصالح كله، فهل القرطبي الذي له تأليف عظيم مثل"جامع الأحكام " يرمى به إلى الشارع, وهل يقال لإمام المدينة مالك " الإمام هالك " وتريد مني بعد كل ذلك أن أتقبل السلفية وأنا مالكي حتى النخاع، يحب إخوانه الاباضية في الله وفي الوطن ...و في الختام أدعو الله على أن يوحد صفوفنا ويجمع كلمتنا لخدمة بلادنا الجزائر. ------------------------------------------------------------------------ ------------------------------------------------------------------------ لا فرق بين الفقه المالكي والفقه الإباضي للدكتور التواتي بن التواتي إنّ هذا المقال هدفه هو خدمة المذهبين الأخوين المتجاورين في هذه الربوع في هذا الوطن المفدى الجزئر، والسعي إلى تقليص هوّة الخلاف بين الإخْوَةِ، وقد رأيت أنّ أهل العلم قد تركوا الميدان الفقهي للعوام من كلا الفريقين يفتون ممّا أضرّ بنا، ولقد كان من دواعي السعادة والشرف أنّي احتكيت بكثير من الأباضيين فكان لي معهم دروس رمضانية، ولقاءات مودة، وتلقيت من بعض ساداتهم الفضلاء وعلمائهم الأجلة احتفاء واحتراما، وعاتبني أحد علمائهم على أنّي لم أدرج في كتابي الفقهي الموسوم ب"المبسط في الفقه المالكي بالأدلة" بعض المسائل من الفقه الأباضي، فكان لهذا العتاب الأَخَوِي أثر، وشعرت بالتقصير نحو إخوتي في الدين والوطن؛ فعقدت العزم على أن أكتب شيئا يقرّب بين الإِخْوَةِ ولا يبعد، ويجمع الكلمة ولا يفرق، ولا نعطي للخلاف قيمة، ولنعذر بعضنا فيما اختلفنا فيه، وهو قليل، أليست كلمة التوحيد تجمعنا؟ فنقول جميعا بملء أفواهنا وقلوبنا: "أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله"، ألسنا نتجه إلى قبلة واحدة؟ عارجين بأرواحنا إلى ربنا، داعين ومتضرعين وألسنا نصوم شهرا واحدا؟ممتثلين لأمر ربنا، ألسنا نؤدي جميعا زكاة أموالنا، ونعطيها لما نصت عليه الآية؟ امتثالا لقوله ربّنا العليّ الجليل: } إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{ التوبة/60ألسنا نحج إلى بيت واحد، ونطوف حوله متسابقين ومتزاحمين لنيل الخيرات، داعين لبعضنا على ظهر الغيب، بقول ربّنا العزيز الواهب: } رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ{ البقرة/ وهذا الكلام يصب في وادي الدعوة إلى جمع الكلمة، ونبذ الخلاف المقيت، وتوحيد الصفوف وجعله كما وصفه رسول اللهr "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وبعد هذا التمهيد الذي أحسب أنّه مفيد فقد آن لنا أن نتساءل عن مسألة هامة متداولة بين الناس وشاعت بين المثقفين أن الإباضية خوارج: هل الأباضية يعدون من جملة الخوارج؟ بالرجوع إلى ما كتبه بعض العلماء الأباضية مثل أبي إسحاق اطفيش، وعلي يحيى معمر- نجد أنهم يتبرءون من تسمية الأباضية بالخوارج براءة الذئب من دم يوسف. لقد خاض الشيخ علي يحيى معمر-رحمه الله تعالى-في كتابيه "الأباضية بين الفرق الإسلامية، والأباضية في موكب التاريخ"، وغيرها-غمار هذه القضية وتفانى في ردّ كلّ قول يجعل الأباضية من الخوارج وهاجم جميع علماء الفرق المتقدمين منهم والمتأخرين على حد سواء، واعتبر عدّهم للأباضية من الخوارج ظلماً وخطأ تاريخياً كبيراً؛ لأن تاريخ الخوارج عنده يبدأ من سنة 64ه بقيام نافع بن الأزرق فمن بعده، وسمى ما قام به المحكِّمة الأولى فتناً داخلية، ونفى وجود أيّ صلة ما بين المحكِّمة الأولى والخوارج بقيادة نافع بن الأزرق، ونجدة بن عامر، وغيرهما من الخوارج. ومما ذكرنا يمكن أن نذهب إلى أنّ الأباضية ليسوا من الخوارج، ولا يصح لدى الباحث المدقق أن ينسب هؤلاء إليهم؛ لأنّ أقطابهم يصرّحون بأنهم ليسوا خوارج بل هم يكفرون الخوارج، وهذا رأيهم فيهم (أي: في الخوارج): قال أبو إسحاق إبراهيم اطفيّش-رحمه الله-: الخوارج طوائف من الناس من زمن التابعين رؤوسهم نافع بن الأزرق، ونجدة بن عامر، وعبد الله بن الصفار، ومن شايعهم، وسُمُّوا خوارج؛ لأنّهم خرجوا عن الحقّ، وعن الأمّة بالحكم على مرتكب الذنب بالشرك، فاستحلّوا ما حرّم الله من الدماء والأموال بالمعصية، متأوّلين قوله تعالى: } وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ{ الأنعام/ ومعنى الآية عند أهل التفسير: إن أطعتموهم فيما يجادلونكم فيه ، وهو الطّعن في الإسلام، والشكّ في صحّة أحكامه. وجملة: } إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ { جواب الشّرط. وتأكيد الخبر ب"إنّ" لتحقيق التحاقهم بالمشركين إذا أطاعوا الشّياطين، وإن لم يَدْعوا لله شركاء؛ لأنّ تخطئة أحكام الإسلام تساوي الشرك، فلذلك احتيج إلى التّأكيد، أو أراد : إنَّكم لصائرون إلى الشّرك، فإنّ الشّياطين تستدرجكم بالمجادلة حتّى يبلغوا بكم إلى الشرك، فيكون اسم الفاعل مراداً به الاستقبال. وليس المعنى: إن أطعتموهم في الإشراك بالله فأشركتم بالله إنَّكم لمشركون؛ لأنَّه لو كان كذلك لم يكن لتأكيد الخبر سبب، بل ولا للإخبار بأنّهم مشركون. فزعموا أنّ معنى الآية: وإن أطعتموهم في أكل الميتَة، فأخطأوا في تأويلهم، والحقّ أنّ معنى الآية: وإن أطعتموهم في استحلال الميتَة والاستحلال لما حرّم الله شرك. وحين أخطأوا في التأويل لم يقتصروا على مجرَّد القول، بل تجاوزوه إلى الفعل، فحكموا على مرتكب المعصية بالشرك، واستحلّوا دماء المسلمين وأموالهم بالمعصية، واستعرضوا النساء والأطفال والشيوخ. وقد كان الإمام الحافظ الحجة الربيع بن حبيب بن عمرو البصري الفراهيدي صاحب "المسند الصحيح"-رحمه الله-حين بلغ إليه أمرهم يقول:"دعوهم حتى يتجاوزوا القول إلى الفعل، فإن بَقُوا على قولهم فَخَطَؤُهُمْ محمول عليهم، وإن تجاوزوه إلى الفعل حكمنا عليهم بحكم الله." فلمّا ظهرت بدعتهم طردهم أصحابنا من مجالسهم، وطاردوهم في كلّ صوب معلنين البراءة منهم، فلمّا تجاوزوا القول إلى الفعل أعلنوا الحكم بكفرهم؛لأنّ الكفر باستحلال ما حرّم الله نصّ في كتاب الله قطعيّ.وقد استشرى فعلهم يومئذ فاشتدّوا على أهل التوحيد بفتنتهم فسلّوا السيوف على الرقاب غير ما أنزل الله، فعظمت محنتهم، فكانت بلاء عظيما.() فإذا كان هذا رأي الأباضية في الخوارج، وأنّهم تبرّأوا منهم، ومن أفعالهم إلى درجة تكفيرهم، ومطاردتهم، فمن الظلم أن يعدّوا منهم، وإنّي أدعو أهل الإنصاف والعدل إلى إعادة النظر في كثير من كتب التفسير والأخبار من الاتهام الباطل في حقّ جماعة من المسلمين من أهل التوحيد، أمّا الاختلاف في الفهم فقد صرّح إمامنا مالك بن أنسt حين همّ أحد خلفاء بني العباس على حمل الناس على الموطأ فقال: "نشدتك الله لا تفعل فإنّ أصحاب رسول اللهr تفرقوا في البلاد وللناس فُهُوم"، والفهم يختلف من شخص إلى آخر قوة وضعفا، سعة وضيقا. أما أصل تسمية الإباضية: فقد ذهب بعض العلماء من الأباضية إلى تحديد الوقت الذي استعملت فيه تسمية الأباضية، وأنّ ذلك كان في القرن الثالث الهجري، وقبلها كانوا يسمون أنفسهم (جماعة المسلمين)، أو (أهل الدعوة)، أو(أهل الاستقامة)كما يذكر ابن خلدون من علمائهم ()، وهذا القول لا يتفق مع نشأة الأباضية بزعامة جابر بن زيد أو عبد الله بن أباض.. وابن حزم يذكر أن الإباضية لا يعرفون ابن أباض، وأنه شخص مجهول()، وهذا خطأ منه، فإن ابن أباض شخص يعرفه الأباضيون، ولهذا رد عليه علي يحيى معمر الأباضي، وذكر أن الأباضية يعرفون ابن أباض معرفة تامة ولا يتبرءون منه، وأن ابن حزم تناقض حين ذكر أن الأباضية يتبرءون منه؛ إذ كيف يتبرءون من شخص مجهول لا يعرفونه.() والسؤال هاهنا من أين لهم تسميتهم (أباضية) إذا لم يكن عبد الله بن أباض من أوائلهم، وقد ذهب الشهرستاني إلى أن ابن أباض خرج في أيام مروان بن محمد وقتل في ذلك الوقت ()، وهذا غير صحيح؛ لأن ابن أباض توفي في خلافة عبد الملك بن مروان. ويعتبر جابر بن زيد هو المؤسس الحقيقي لدعوتهم، والمنظم الأول لحركتهم، ويعتقد أن سنة ولادته كانت بين (18 22)ه. وقد تتلمذ جابر على يد عدد من الصحابة والتابعين، منهم عبد الله بن عباس، وقد بلغ من العلم مبلغاً يشار إليه بالبنان، ورحل في طلب العلم مراراً. أما أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي فهو الذي خلف جابراً في رئاسة الدعوة، وقد عاش في البصرة، وأخذ العلم عن جابر، وغيره من أئمة الأباضية في مرحلة الكتمان، كما أنه أدرك بعض الصحابة مثل أبي هريرة وأنس بن مالك وأبي سعيد الخدري. وبالإضافة إلى كونه عالماً من علماء الأباضية، فإن أبا عبيدة كان يتمتع بقدرات سياسية كبيرة، وقد تبوأ زعامة هذه الفرقة بعد موت الحجاج سنة 95ه، وخروجه من السجن، واتفق ذلك مع بداية حكم سليمان بن عبد الملك سنة 96ه وفي تلك الفترة لم تكن العلاقة بين الخلافة والأباضية عدائية، فقد حظيت الأباضية لفترة من الزمن بحماية زعيم الأزد، يزيد ابن المهلب الذي عيّنه الخليفة والياً على العراق وخراسان حيث كان العديد من الأزديين، والمهالبة قد انضموا إلى هذه الفرقة. والأباضية يبتغون العدل وينشدون العمل بالكتاب والسنة والسير على منهاج الخلافة التي سَارَ عليها الخلفاءُ الراشدون، وسواء أقام بالأمر قرشي أم حبشي عربي أم أعجمي كما ورد في أحديث صحاح لعلّ موقفهم من خلافة عمر بن عبد العزيز حين أرسلوا إليه وفدا من البصرة يتألّف من ستّة علماء جهابذة: جعفر بن السمالك العبدي، وأبي الحر عليّ بن الحصين العنبر، والحباب بن الكاتب، والحباب بن كليب، وأبي سفيان قنبر البصري، وسالم بن ذكوان... أماكن تواجد الإباضية: والأباضية اليوم في عمان والمغرب متمسّكون الكتاب والسنة، وهم ليسوا أصحاب غلو في الدين، متسامحون مع مخاليفهم. يقول أحد علمائهم: ليس من رأينا بحمد الله- الغُلُوُّ في ديننا والغشم في أمرنا، ولا التعدّي على من فارقنا... الله ربّنا، ومحمد نبيّنا، والقرآن إمامنا، والسنّة طريقتنا، وبيت الله الحرام قبلتنا، والإسلام ديننا. ولذلك يحرم على المسلم اتهام أخيه المسلم في دينه بعد مثل هذا الاعتراف فيكون من المتألين الذين يسارعون في تكفير المسلمين وهم الذين عناهم رسول اللهr بقوله: "ويل للمتألين من أمتّي قيل: من هم؟ قال: الذين يقولون: فلان في الجنة وفلان في النار أو ليكونن كذا أو ليغفرن الله لفلان أو لا يغفر له. تحقيق الحديث: عن جعفر العَبدِي بفتح العين وكسر الدال المهملتين بينهما موحدة ساكنة نسبة إلى عبد آلاف من ربيعة ينسب إليه خلق كثير مرسلا ورواه القضاعي مسندا.() وقد ورد هذا الحديث بهذا الإسناد: حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل المحاملي، قال: حدثنا يعقوب الدورقي، قال: حدثنا معتمر، عن ليث، عن زيد، عن جعفر العبدي، قال: قال رسول اللهr : «ويل للمتألين من أمتي الذين يقولون: فلان في الجنة ، وفلان في النار».() وهذا الحديث رواه الإمام البخاري-رحمه الله تعالى- في التاريخ عن جعفر العبدى وقال: مرسل.() وهنا نسأل هل أسس الإباضيةُ دولةً في المغرب؟ إن قيام هذه الدولة التي ثبت وجودها كانت نتيجة لانتشار المذهب الأباضي هناك بين قبائل الأمزيغ، ولقد كانت البصرة هي إحدى القواعد الأساسية لدعاة المذهب الأباضي، حيث يتخرج منها دعاة هذا المذهب وينتشرون في أماكن كثيرة، وتعتبر المرجع لجميع الأباضية في كل مكان، إذ يأتون إليها ويتزودون منها علماً وخططاً لنشر مذهبهم وإقامة حكمهم، في ذلك الوقت وفد إليها رجال هذا المذهب ثم خرجوا إلى المغرب وأسسوا دولتهم إلى جانب دولة الصفرية الخارجية. وكان لنفوسة() الفضل في رسوخ الإسلام في العنصر البربري، وذلك أنّ نفوسة نقلت العلوم من البصرة إلى بلادها حتى نبغ فيهم أئمة جهابذة، وظهر فيهم أساطين العلماء الذين أبرزوا من ذخائر العلوم ما فاقوا به، كعلماء المشرق عمان والبصرة والكوفة، واستفرغوا الجهد لاستنباط الأحكام في كثير من القضايا الفقهية، فعرفت نفوسة بآرائها في شتى من المسائل، فيقال: هذا قول أهل الجبل، فغالبا ما يقال هذا مذهب أصحابنا من أهل المغرب، فيراد به أهل الجبل... ونفوسة لهم في الإسلام تاريخ حافل بالعظمة الدينة، والعلمية والكرامات، حتى كانت بلادهم جديرة بأنْ تسمى جبال الأولياء والأبدال. وقد اشتهرت بلاد نفوسة بكرامات الأولياء والأخبار وصفوة الصالحين، أينما ذهب المسلم شاهد تلك المناقب التي تشرق كالأنوار المتألقة بين مزن السماء،بل لها إشراق النجوم والأقمار بما لا يستطيع العاقل جحوده، وينكر الكرامات إلاّ الملاحدة والجهلة بمقام الأولياء. ونفوسة سموا بذلك قيل: لأنهم أسلموا بأنفسهم، ولم يكن منهم الإسلام كرها، فعندما بلغ الفتح الإسلامي طرابلس، وكان أمير الجيش الإسلامي عمرو بن العاص قدم عليه ستة نفر من البربر، محلقين الرؤوس واللحي، فقال لهم عمرو: من أنتم وما جاء بكم؟ فقالوا رغبنا في الإسلام فجئنا له؛ لأنّ جدودنا قد أوصونا بذلك، فقال لهم عمرو: مالكم محلقي الرؤوس واللحي؟ فقالوا له: ذلك شعر نبت في الكفر فأرنا أن ينبت في الإسلام.() وطريقة قيام المذهب الأباضي تمت بوضع خطة للقبض على زمام السلطة شيئاً فشيئاً، وكان أوّل زعيم لهم هو أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري، فاستولوا على طرابلس ثم عيَّن عبد الرحمن الرستمي قاضياً عليها وواصل أبو الخطاب انتصاراته، ولكن جيش الخلافة العباسية دحرهم في معركة قتل فيها أبو الخطاب وتفرقت الإباضية. وقام عبد الرحمن الرستمي الذي يعتبر مؤسس الدولة الرستمية الأباضية في المغرب الأوسط (الجزائر) بمحاولات الاستقلال، وتمت له السيطرة على أماكن كثيرة، وسلموا عليه بالخلافة سنة 160ه وهو فارسي الأصل. وقد توفي سنة 171ه فاختاروا ابنه عبد الوهاب الذي واصل تنمية المذهب واجتمعت عليه الكلمة إلى أن مات، فخلفه ابنه أفلح بن عبد الوهاب وسار على طريقة والده وأحبه الناس، وبعد وفاته تولى ابنه أبو اليقظان محمد ابن أفلح، فأحب الناس سيرته إلى أن توفي فخلفه ابنه أبو حاتم يوسف بن محمد بن أفلح إلا أن العلاقة ساءت بينه وبين عمه يعقوب بن أفلح ودارت بينهم معارك هائلة، ومن هنا بدأت الدولة الرستمية في الأفول وداهمتهم الشيعة بقيادة أبي عبيد الله الشيعي وانتهت أسرتهم في سنة 296ه فرثاهم علماء الأباضية كثيراً...() وكانت تيهرت ونواحيها على الخصوص تحتضن فرقا عديدة، ومذاهب مختلفة كالمذهب الأباضي وهو مذهب الدولة القوي، ومذاهب أخرى كالمذهب المالكي وغيره، ولم يلق المالكية تضييقا بل كانت المذاهب تتمتع بحرية فكرية، كان لكلّ مذهب مسجده وعلماؤه وحلقات دروسه، وقد تقع مناظرات بين هذه المذاهب ولكنّها في حدود الأدب والاحترام المتبادل، والذي يقرأ هذه المجالس يعجب بحرية الرأي التي وصل إليها سكان تيهرت، ورجال الفكر فيها. قال ابن الصغير يتحدث عن هذه المجالس العلمية المثمرة النافعة: "ومن يأتي إلى حلقات الأباضية ناظروه ألطف مناظرة، وكذلك من أتى من الأباضية إلى حلقات غيرهم كان سبيله ذلك.() ونحن أهل الأغواط إننا لنذكر المواقف الجليلة التي قام بعض أثرياء الأباضية في سنين المجاعة التي حلت بمنطقتنا أثناء ليل الاستعمار الطويل فقد أعطى أبو شاكر الأباضي الأغواطي أمرا لسائق حافلاته بحمل كلّ من يجدونه بين المدينةغردايةوالأغواط ممَنْ مسته المجاعة أن يُحْمَلوا مجانا والإتيان بهم إلى مزرعته بضواحي الأغواط التي غدت اليوم تعرف ب"بوشاكر" تخليدا لذكرى صاحبها وما قام به من عمل خيري محتسب عند الله تعالى، إذ كان الرجل يطعم الجائع ويداوي المريض وبقي هؤلاء عنده في كفالة حتى فتح الله تعالى بالخير وتبدلّ الحال واتسع بعد ضيق والحمد لله رب العالمين. أما أثناء الثورة التحريرية فقد كان الاتصال بين الأغوطيين والميزابيين متواصلا، فقد سمعت من الشيخ العلامة الأباضي محمد سعيد كعبوش في حفل تأبين الشيخ القرادي-رحمه الله تعالى-وهو يتحدث عن الاتصال الوثيق بين الشيخ الحاج سليمان ابن الغزال المالكي الأغواطي والشيخ القرادي الأباضي-رحمهما الله تعالى-فيما يخص إذاعة شؤون الثورة والعمل على مدّها بالمؤن وغيرها من الأمور ذات الأهمية، وذاك في الأيام الأولى من وصول الثورة إلى الجنوب... وإني لأذكر كيف كان الشيخ العلامة إبراهيم بيوض-قدس الله سرّه- يأتي إلى الأغواط لإلقاء دروس رمضانية، وكيف كان الناس يتسارعون لحضور هذه الدروس الوعظية بتزاحم، وتسابق لأخذ الأماكن، ولدي صورة للشيخ بيوض أثناء تدشينه لمدرسة الشبيبة التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهي مدرسة لأهل الأغواط المالكيين... وأذكر كذلك الشيخ أبا اليقظان-رحمه الله- فإنّه كان كثير الأسفار إلى الشمال فيحل في الأغواط فيسارع الناس للسلام عليه والاستفادة منه، فأثر فيهم بأحاديثه ودروسه... هذه القضايا التي ذكرتها قليل من كثير وإنّها لتدل على روح المودة بين المالكية والإباضية وأنّ المذهبين عاشا متقاربين وأنّ أتباعهما كانت ولا زالت بينهما مودة وإخاء وتعاون وتآزر منذ القرون. وأنّ المذهب المالكي عرف أيام الدولة الرستومية الأباضية كلّ احترام، وقد أثبت التاريخ أنّ الرستمين لم يكونوا يضيقون عن المالكية، بل عرفت المذاهب في هذه الحقبة من الزمن كلّ حرية، فقد كانت المناظرات العلمية الهادفة البناءة مسموح بها، ومشجعة من الدولة آنئذ، ومن أراد التأكد والمزيد نحيله إلى تاريخ الجزائر للميلي، وكتاب المغرب العربي تاريخه وثقافت للرابح بونار-رحمهما الله تعالى-. وأذكر أنّه قد كُتِبَ لي الحضور في جلسة صلح بين الأباضية والمالكية من أهل بريان (وكان الحاضرون من كلا الفريقين إضافة إلى أعيان الأغواط) فقد قلت لهم على الملأ وأشهدت الله تعالى: إنّي كباحث في فقه المذهبين (المالكي والأباضي) لا أجد لهذا الخلاف الدائر بينكم أثرا، وإن المذهبين منكم براء-اللهم فاشهد-، وإنما هي خلافاتكم الدنيوية حَوَّلْتُمُوهَا إلى خلاف مذهبي، وألبستموها لباسا ديني، وإن صراعكم نزغ من الشيطان، وإني أعوذ بالله أن يسيطر عنكم ويوقع بينكم العداوة والبغضاء، فتكونوا خالفتم تحذير الله وأمره قال تعالى: } فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { النور/63 لقد نظرت في فقه المذهبين فليس هناك كبير اختلاف بينهما، وكان حصيلة النظر والبحث في أبواب الفقه كتابين في الفقه المقارن بين المذهب المالكي والأباضي فيما يزيد عن ألف صفحة فلم يظهر هذا الاختلاف المزعوم، وإن أعلام (المذهبين)كان بينهم أخذٌ وتبادلُ المعارف، ومما يزيد تأكيدا لما ذكرت لكم أنّه لما صدر كتابي الموسوم [الفقه المالكي بالأدلة بأجزائه الثلاثة] لقي ترحابا من الأباضية ولقي صاحبه تشجيعا ومؤازرة من الأباضيين وراسلي أحد أعلام المذهب الأباضي وهو العلامة الموسوعي الشيخ محمد ناصر المرموري-حفظه الله تعالى-مشجعا النهج الذي انتهجته والمنهج الذي اعتمدته، فقال: "وجدت هديتك الثمينة على مكتبي بعد قدومي من سفري في العطلة وأُخْبِرْتُ بأنفاسك المباركة وجدك في طلب العلم ونشره فأحببتك في الله حبا أرجو ثوابه عند الله لي ولك في ظل عرشه، فأشكرك على هديتك الغالية الثمينة التي تناولت فيه الفقه تبسيطا وتوضيحا وتبويبا وتفصيلا وهذا ما يحتاج إليه الشباب، وليس هناك كبير فرق بين الفقه المالكي والأباضي..انتهى كلام الشيخ. وإنّي أقولها بصراحة إنّ ما يذكى اليوم بين الناس من فتنة ما هو إلاّ من كيد الشيطان، وأن كيده وزبانيته ضعيف حين يتصدى له أعلام من المالكية والأباضية بدحضه وردّه بالحجة والبرهان، وإني لأهب بأهل العلم فقهاء ومفكرين وكتاب من كلا المذهبين بتحمل مسؤولياتهم المناط بهم أمام الله تعالى، ولا أشك في توفيقهم بإذن الله، وألاّ يتركوا الأمر لضعاف العقول والمصطادين في المياه العكرة، وطلاب النفوذ من كلا الفريقين. وأقول لهؤلاء: إن المذهب المالكي والأباضي لا يزاحمانهم في سياسة يبتغون التحكم فيها والفوز بها والظفر بكرسيها ولا في تجارة يبتغون عروضها، و لا في جاه ولا في سلطان، فليتركوا المذهبين (المالكي والأباضي) وأتباعهم يعيشون مثل ما كان آباؤهم يعيشون في نفع متبادل ومودة مستديمة، وإن أرواح الآباء في العلياء تتألم من الفرقة والشقاق، حين أراد البعض من الفريقين نقض ما شيده وبناه أسلافنا، فلنتق الله في ديننا الذي هو وحدتنا وجامع كلمتنا، ولنغرس في أبنائنا روح المودة والأخوة، ولننبذ الفرقة والتشذرم، ونبيّنا محمدr قد ترك فينا ما إن أخذ به لن نضل الطريق أبدا: كتاب الله الذي نتلوها ونحفِّظه لأبنائنا، وسنة نبيّنا المصطفى المجتبى التي ينبغي لنا أن ننتهجها سلوكا وأخلاقا، وما ذلك على الله بعزيز إن أخلصنا النية لله تعالى.نسأله التوفيق والسداد.