بقلم: إبراهيم نصر الله* تعتبر تجربة الروائي عبد الرحمن منيف الذي صادفت ذكرى رحيله نهاية الشهر الماضي واحدة من أكثر التجارب الروائية إثارةً لاهتمام القارئ العربي خلال السنوات الأربعين الماضية ويرجع ذلك إلى أنه استطاع أن يكون الصوت الأكثر وضوحاً وجرأةً في الحديث عن مشاكل وقضايا طحنت وما زالت تطحن المواطن العربي. وفي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي حيث كانت وسائل النشر والاتصال محدودة مقارنة مع ما يحدث اليوم من حيث شيوع الفضائيات وثقافة الإنترنت وسهولة نقل المعلومات بدون أي رقابة أو قيود فإن رواياته غدت ينبوعاً أساساً للمعرفة الجمالية ونافذةً من أهم النوافذ التي راحت تدخل منها الشمس كاشفة واقعَ سلب الحريات واحتكار الحقيقة وجعل البشر في ذيل سلم الكائنات الحية على وجه الأرض مع زيادة تحوّل النفط من نعمة إلى نقمة. كان صدْقُ الأحلام والخطى الأولى قبل الكتابة لدى عبد الرحمن منيف كفيلاً بأن يحيل الكتابة إلى خيار أخير وخندق أخير للتحوّل بالتالي إلى بديل عملي. وقد أثبتت مسيرة منيف بعد ذلك لنا نحن الذين أحببناه كم كان يمكن أن نكون خاسرين لو أنه لم ينحزْ إلى الأدب مخلّفاً السياسة الرجراجة وضبابيتها خلفه. جاء منيف للكتابة واضحا لأن الكتابة كانت تمرده على لغة تستعير الكلمات وتسلبها معناها وتستعير الأحلام وتسلبها حقَّها في أن تمشي على الأرض كما يشتهي الناس. وهكذا وجد الإنسانُ القلق البدويُّ الباحثُ عن واحة أحلامه كل ما يريده في الكتابة وحين اختارها كان يختار مصيرا. ولذلك ليس من الغريب أن يُخلص للكتابة متفرغاً لها وقابلاً بالقليل لتغدو الرواية لديه عملاً نضالياً جريئاً بقدر ما هي عمل فني. ولذا كان من الطبيعي أن يتسع مدى تلقي أعماله باستمرار ففي زمن كانت الأقنعة فيه تتساقط وكثير من الكتاب يتحوّلون إلى كَتَبَة وجد القارئ العربي صورته في كتابات منيف ونبله وشجاعته وزهده وعروبته بعيداً عن ظلمة التخوم وإقليمياتها التي نبتت في أرض عربية بعضها مارس القهر وبعضها مارس الرشوة لتدجين مواطنيه. الوجه الآخر للإبداع ولعل رواياته في ذلك الوقت كانت الوجه الآخر للشعر العربي أو شعر المقاومة العربي على وجه الخصوص الذي بات خبز البشر في سعيهم للحصول على حرية تليق بهم وكرامة باتت مفقودة على المستويين الخاص والعام. كان منيف صوت الجماعة وشاعرها على مستوى الرواية. ولا شك أن سيرته ومسيرته تؤكدان ذلك إذ كان لجوؤه إلى الرواية هرباً مُبدعاً بعد أن اكتشف أمراض السياسة والسياسيين لا الرسميين فقط بل أولئك الذين يحملون لواء الدعوة للتغيير. هل كان منيف يدرك ما الذي كان ينتظره في عالم الرواية؟ وهل كان يدرك مدى التأثير الذي كان سيحدثه وهو يختار الأدب طريقاً ووسيلة تعبير وساحة مواجهة للأمراض الكثيرة التي تعاني منها الدولة العربية بعد مرحلة الاستعمار هذه الدولة التي بدت في حالات كثيرة أنها أكثر استلاباً وأنها لا تملك من مقومات الدولة غير نشيدها الوطني وعَلَمِها أما الحقيقة فقد كانت تشير إلى مرحلة جديدة مقنّعة من الاستعمار والتبعية الأشد قسوة. .. ولا شك أن ثمة عوامل كثيرة ساهمت في تكوينه وثمة ظروفاً كثيرة تداخلت لتُشَكِّل فضاء الرحم في كل مرحلة من مراحل حياته وإن كانت الولادة طبيعية في أحيان كثيرة فإنه وصل إلى المرحلة التي كان لا بد منها كي يلد نفسه بنفسه كما يشتهي قلبه ويشتهي حلمه وتشتهي تجربته الطويلة الشائكة ودربه الذي قاده إلى أكثر من واحة عاد منها أكثر عطشاً. كان على عبد الرحمن منيف أن يجد عبد الرحمن منيف ولم يكن ثمة أجمل من الكتابة مكاناً للعثور على الروح فيه. كانت البداية روايته (الأشجار واغتيال مرزوق) رغم أن عبد الرحمن منيف يقول في مقدمة طبعة 1999 من (شرق المتوسط): (كنت كتبت شرق المتوسط عام 1972 وقبل أن تنشر لي أي رواية سابقة). ثم جاءت (قصة حب مجوسية) وأعقبها صدور (شرق المتوسط) التي شكلت ظاهرة وصرخة استثنائية في الأدب العربي. وبعدها أصدر (حين تركنا الجسر) ولعلها الرواية الأكثر بنائية وتجريبية في تجربته الروائية. ومثل أي كاتب كبير يدرك في لحظة ما أن تجربته يجب أن تشهد ذلك التحوّل الذي يعطيها حق ميلادها الثاني ويدفع بها إلى الأمام عبر مشروع مركزي كتبَ عبد الرحمن منيف (مدن الملح) التي حولته من روائي إلى رمز على أكثر من مستوى. كانت (مدن الملح) في ذلك الوقت هي المشروع الروائي العربي الأكبر منذ (ثلاثية) نجيب محفوظ وفيها قدم منيف زبدة خبرته كفنان وكإنسان عربي احترق ويحترق بهذا الخواء. كان طموح عبد الرحمن منيف إنساناً على درجة كبيرة من السمو ولذلك كان واحداً من أكثر الذين احترقوا بالمصير الذي آلت إليه الأحلام والمصير الذي آلت إليه نقاط الضوء الكبرى في تاريخنا المعاصر والخذلان الذي حاق بها بدءاً من حزيران ووصولاً للانتفاضة الأولى مروراً بالثانية وحربيِّ الخليج. ولذلك لم يجد منيف ما هو أكثر قوة من الكتابة ليرد على زمن الرداءة وهكذا ذهب يبحث عن قمة أخرى تقف إلى جانب (مدن الملح) ولم يكن ثمة ما هو أكثر سخونة في تاريخ العراق. وبعد عمل وجهد بحثي امتد سنوات أصدر ثلاثيته الروائية الضخمة (أرض السواد) التي لم تُقابل بالاهتمام نفسه الذي قوبلت به مدن الملح بل وتعرضت الرواية لأكثر من هجوم عنيف أثّر كثيراً فيه كإنسان. في زمن الحلم العربي الجميل ولد عبد الرحمن منيف جميلاً وفي زمن القبح ظل جميلاً ورحل جميلاً ويظل..