ليس علينا أن نعمل لنعفي من يأتي بعدنا من العمل، فإننا إن أعفيناه من العمل أسأنا إليه، ولكننا نترك له واجبه وننهض بواجبنا، وواجب كل جيل من أجيال الأمم أن يُبقي لمن بعده أمانة ولا يبقى له قيودا من عمله أو إثقالاً من جرائر إهماله وتفريطه، وإن استطعنا أن نقول للأجيال المقبلة إن دينكم لنا أعظم من ديننا لأسلافنا فنحن الأوفياء وهم الرابحون· ليس استدعاؤُنا لعبارة العقاد السابقة اعتباطا أو من قبيل المصادفة، وإنما تظهر الحاجة إليها في وقت يحاول فيه البعض تصوير غضبة الجماهير العربية الراهنة باعتبارها مجموعة من المطالب الجماهيرية التي تصرف مجرد الوعود بمراعاتها المحتجين كل إلى داره· فمن خلال العبارة السابقة التي يكشف فيها العقاد المعنى الحقيقي لثورة الجماهير، بحيث لا تصبح مجرد موقف فوضوي يمكن اختزاله في عدة مطالب تختلف مساراتها من الحقوق الاجتماعية إلى الاقتصادية إلى السياسية، وإنما هي وعي بدور تاريخي ينوط بجيل يأبى أن يسلم الرايات منكسة لمن يأتون من بعده· ما معنى الثورة؟ الثورة تعبير عن رفض جماهيري قاطع لاستمرار أوضاع تنال من إنسانيتهم أو حرياتهم أو احتياجاتهم المعنوية فضلا عن إهمال احتياجاتهم المادية· صحيح أن بعض الأدبيات السياسية تربط ربطا وثيقا بين مفهوم الجوع، وبين مفهوم الثورة، بحيث يجعلون من الأولى شرط تحقق الثانية، إلا أن هذا يصبح غير ضروري عندما يتحقق للشعوب قدرٌ من الوعي يجعلها تستشعر الخطر الذي يحيق بأمانيها ومستقبلها ومستقبل أبنائها· ولذلك يعرف المفكر الإسلامي محمد عماره الثورة في كتابه الإسلام والثورة بقوله: إنها العلم الذي يوضع في موضع الممارسة والتطبيق من أجل تغيير المجتمع تغييرا جذريا وشاملا، والانتقال به من مرحله تطورية معينة إلى مرحلة أخرى أكثر تقدما··، فلم يجعل عمارة من الجهل أو الجوع مقدمات ضرورية لنشوب الثورات، وإنما اشترط الوعي، حيث يقرر بأنها علم يوضع موضع الممارسة والتطبيق· ويختلف مفهوم الثورة عن غيره من المفاهيم التي تحمل معان مقاربة مثل المقاومة والاحتجاج والانتفاضة وغيرها من المفاهيم، ففي حين تنطوي هذه المفاهيم على حالات من الاستقرار النوعي العام مع حدوث تغييرات جزئية، فإن الثورة تعني تغييرا جذريا، وإحلالا لمبادئ محل مبادئ أخرى بالية ما عادت تحظى بتقدير الشعوب ولا تحقق مصالحها· وفي نفس السياق يطرح العقاد رؤية مفادها أن الملكيين إبان الثورة الفرنسية كانوا يعتقدون أن الملك إنما يحكم بمقتضى حق إلهي، وبالتالي فإن إرادته تمثل إرادة الله، ومن هنا عمل الثوار على تفنيد هذا الزعم، وسلب الملك هذا الحق· يقول العقاد أما الثائرون فكانت مشيئة الشعب عندهم هي قوام الحكم وسنده، فمشيئة الشعب من مشيئة الله، وعلى الملوك أن تطيع شعوبها وتعمل على رضاها، وإلا فهم الخارجون على سلطان الأرض والسماء· إن ما يمكن أن نعده قرينة ضرورية لحدوث ثورات الشعوب هو شعورها بالاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي، وبتفرد فئة بعينها في اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بمستقبل الشعوب ومصائرها، في حين تمتهن إرادة هذه الشعوب وتسفِّه أحلامها· وقد تكون الثورة لتحقيق أيديولوجيات بعينها كثورة البلاشفة في روسيا أو الثورة الصينية أو الثورة الإيرانية، وقد تكون ثورة شعبية تقوم على شعور الشعوب في حقها في أن تحكم وفقا لإراداتها كالثورة الفرنسية وثورات التحرر من الاستعمار الخارجي في الكثير من بلدان العالم في النصف الثاني من القرن الماضي وآخرها الثورة التونسية· مطالب الثائرين بين الاختزال والتسفيه عرف التاريخ الإنساني محاولات دائبة من قبل الأنظمة المتسلطة وأعوانها لتسفيه أحلام الثائرين وإلصاقها بمطالب الجوع والفقر، غير أن هذا لم يفتّ أبدا في عضد الجماهير الثائرة بل كانت دعواتهم لإشباع هذه الحاجات إنما هي في الحقيقة تعبير عن افتقارهم للحد الأدنى من الحقوق الإنسانية التي تحفظ للمرء كرامته وليس قصراً لمطالبهم· من البديهي أن تختلف مطالب الجماهير تبعا لاختلاف ثقافاتهم وحاجاتهم، لكن تبقى شعاراتهم تعبر عن حاجات كلية ورغبات عامة· ويذكر العقاد أن تاريخ الثورة الفرنسية قد شهد محاولات لتصوير مطالبها الشهيرة في (الإخاء، والعدل، والحرية) باعتبارها مجرد كلمات متراصة ذات رنين في لغتها، اختيرت لما بينها من نغمات وتناسق، وهو ما يعلق عليه العقاد بقوله: مطالب الأمم وضروراتها تفرض نفسها في شعار كل ثورة من ثوراتها، فلا تمتاز كل ثورة بشعارها الخاص لأنه نغمة محبوبة أو كلمات رنانة تغني عنها الكلمات التي تماثلها رنة ونغمة، وإنما تمتاز بشعارها الخاص لأنه تعبير عن كيانها وعن وجهتها وعن البواعث التي تمليها· فمحاولة التقليل من شأن المطالب الشعبية أو صرفها عن معانيها الحقيقية إنما هي إحدى الوسائل السلطوية لمواجهة الهبات الجماهيرية، يمكن إضافتها لبعض وسائل المواجهة الأخرى مثل اختزال الجماهير في مجموعة بعينها تعبر عن مصالحها الخاصة وليس عن مطالب عامة، وبالتالي عزل الجماهير عن بعضها البعض، لأن في اتحادها قوة ترعد أوصال المتسلطين، أو استغلال كل ما هو ذو قبول واتفاق عام استخدام سلبي يفقده حيويته ورسالته لتحقيق صالح الإنسانية· ومن ذلك قول بعض المفكرين والباحثين بأن هذا الدين أو ذاك لا يعرف ثورات التغيير إنما يعرف الصبر والاحتساب ورفع الأكف بالدعاء؟، فيصبح الدين كأنه عبء على الناس وليس رصيدا لهم، ويزيد المتسلط من طغيانه بما يضفي إلى نفسه من زعم التفويض أو الرعاية الإلهيين· قد يكون صحيحا أن العقل الإنساني تخطى مسائل الاعتقاد في التفويض الإلهي، فلم يعد هناك مجالٌ لإدعائه، إلا أن المستبد يبقى قادرا على إبداع مقولات تضمن له حق التسلط والانفراد في اتخاذ القرار، كالإدعاء بأن الشعوب غير مؤهله للديمقراطية، أو أنها غير قادرة على تحمل المسؤوليات، أو أنه يبقى هناك دائما من شؤونها ما لاتدرك حقيقة مصلحتها فيه، في حين يعلم المستبد وحده هذه المصلحة علم اليقين· * عرف التاريخ الإنساني محاولات دائبة من قبل الأنظمة المتسلطة وأعوانها لتسفيه أحلام الثائرين وإلصاقها بمطالب الجوع والفقر، غير أن هذا لم يفتّ أبدا في عضد الجماهير الثائرة بل كانت دعواتهم لإشباع هذه الحاجات إنما هي في الحقيقة تعبير عن افتقارهم للحد الأدنى من الحقوق الإنسانية التي تحفظ للمرء كرامته وليس قصراً لمطالبهم· * محاولة التقليل من شأن المطالب الشعبية أو صرفها عن معانيها الحقيقية إنما هي إحدى الوسائل السلطوية لمواجهة الهبات الجماهيرية، يمكن إضافتها لبعض وسائل المواجهة الأخرى مثل اختزال الجماهير في مجموعة بعينها تعبر عن مصالحها الخاصة وليس عن مطالب عامة، وبالتالي عزل الجماهير عن بعضها البعض، لأن في اتحادها قوة ترعد أوصال المتسلطين·