أصل هذه الكلمة محاضرة ألقيناها في المركز الوطني لتاريخ الثورة (الأبيار الجزائر)، مساء يوم 13 أفريل 2008. وكنّا سنقدمها للنشر في حينها ولكننا توقفنا حتى تنتهي جملة من الاستفسارات وحتى الاعتراضات التي وصلتنا على بعض ما جاء فيها. والواقع أن بعض من حضر المحاضرة لم يستوعب تفاصيلها، فهي تتحدث عن سوء استعمالنا للتاريخ وعن مسيرة تاريخية للوحدة المغاربية بقيادات مسؤولة، ولكن بعض الحاضرين فهموا أنها تعالج دور الأحزاب في فترة التحرر الوطني... * موضوع هذه المحاضرة هو (التاريخ في حياتنا)، ونقصد هنا تاريخنا بالذات، ولكن لماذا لا يكون تاريخ الأمم والشعوب الأخرى أيضا. فهل نحن واعون حقا برسالة التاريخ وخطورة الجهل بها والتهاون بشأنها، وتأثير ذلك كله على حياتنا حاضرا ومستقبلا. * * كثرة الحديث عن التاريخ دليل الإفلاس * يظهر لي أنه قد لا يوجد شعب يتحدث عن التاريخ دون وعي بأهميته، كما يفعل الجزائريون، وأكاد أقول كل الجزائريين: الباحثون والإعلاميون والمجاهدون، والأدباء والسياسيون... فكل صنف من هؤلاء له غرامه بالتاريخ، وموقفه الخاص منه، فهم يحكمون بسهولة مثلا بنضالية فلان وخيانة فلان، وهم يحتجون على عدم فتح الملفات (الإرشيف) بحثا فيه عما يسند حججهم، لأنهم لم يجدوا في الملفات المفتوحة ولا في الشهادات الممنوحة ما يرضيهم. لذلك أخذوا يشككون في المعلومات ولو كانت موثقة. إنهم يريدون تاريخا على مزاجهم، يريدون الاستيلاء على التاريخ كما استولى بعضهم على الأراضي والشقق والممتلكات الأخرى بعد الاستقلال. فالتاريخ عند هؤلاء غنيمة يجب كسبها ولو بطرق غير مشروعة. * * المصادر الفرنسية والطعن في الهوية * إن الكثير من كتاب التاريخ عندنا تتلمذوا على المصادر الفرنسية، وهي مصادر تذهب إلى أن الفاتحين المسلمين مثلا، كانوا أسوأ من الوندال. فهم غزاة نجحوا في التغلب على شمال إفريقيا التابع للدولة البيزنطية، فقتلوا وسلبوا ونشروا الخراب، ثم عاد أغلبهم من حيث أتوا بالغنائم والأسرى والجواري. ومن المصادر الفرنسية أيضا ردد بعضنا عبارة لابن خلدون أعجبت الفرنسيين ولقيت هوى في نفوسهم، وهي: »إذا عرّبت خرّبت«، وهي تحريف لقوله في المقدمة ما معناه: فصل في أن العرب إذا استولوا على المدن أسرع إليها الخراب. كما استعار الفرنسيون من ابن خلدون رأيه في وصف بني هلال بالجراد المنتشر. وقد رددوا له عبارة أخرى تخدم مشروعهم في الجزائر، وهي أن »المغلوب مولع بتقليد الغالب«. ألا يصبّ كل ذلك في نهر الاندماج الذي دعا إليه السانسيمونيون منذ الاحتلال؟ أليس الغالبون هم الفرنسيين والمغلوبون هم الجزائريين؟ ولأمر ما بادر الفرنسيون إلى ترجمة القسم الخاص بالتاريخ المحلي من كتاب العبر ووزعوه هدايا على أعيان ومثقفي الشعوب الأخرى عن طريق قنصلياتهم. ولكي نتحرر نحن من عقدة الغلبة هذه كان علينا تقليد الفرنسيين (وهم الغالبون) والتنازل عن هويتنا، ومنها تاريخنا. * * موقفنا من القادة * كانت إذن تلك العبارات تخدم برنامج الفرنسيين في الطعن على الإسلام ولغته وثقافته (أو العروبة الثقافية) وتهدف إلى تمجيد الثقافة الفرنسية التي يصفونها بأنها ثقافة الأمن والسلام والحضارة. وخدمة لذلك المفهوم تطوّع بعضنا وأصدر حكما بالإعدام حتى على الأمير عبد القادر بدعوى أنه لم ينتحر دفاعا عن شرف الأمة ولم يمت »بين طعن القنا وخفق البنود« على حد تعبير المتنبي. ولم نتساءل لماذا تخلينا نحن عن الأمير وتركناه وحده ينزف في الميدان؟ كما لم نتساءل عن أثر تحالف صديقه عبد الرحمن بن هشام مع أعدائه، إنقاذا لعرشه. ذلك أن مساءلتنا لأنفسنا على هذا النحو تجعلنا نقف أمام المرآة بدون ورقة توت. * يقولون إن الزمن الحاضر هو تاريخ الغد، فإذا صدق ذلك فإننا نستهتر اليوم بتاريخنا استهتارا فظيعا. لماذا لا نحاكم اليوم مثلا، أجيالا من القادة تعاقبوا على هذه البلاد ولم يتركوا لنا دولة مغاربية واحدة تحمينا؟ * ولكن في مجال الاندماج الحضاري فَهِمَ الأجداد أكثر منّا أنه لا مناص من الوحدة ومن العيش داخل حدود واحدة وهي حدود دار الإسلام، كما حددتها الشريعة والثقافة الإسلامية. فبعد سقوط الدويلات العائلية والمذهبية (الإدريسية والرستمية...) جاء العبيديون والمرابطون والموحدون الذين كان قادتهم يؤمنون بالوحدة ويعملون من أجل تجاوز حدود المذهب والعائلة لأن رؤيتهم كانت إسلامية بالدرجة الأولى، وهي رؤية عقائدية فوق كل اعتبار. فيوسف بن تاشفين لم يكن يفكر مغربيا أو جزائريا أو ليبيا... كان يفكر في الإسلام والتخلص من العناصر المنحرفة وتحصين حدود الدولة. وقد جيّش الجيوش لحماية وإنقاذ الأندلس، أو ما بقي منها، والقضاء على أمراء الطوائف الذين استهانوا بالإسلام تحت تأثير الفساد الداخلي والضربات الإسبانية. وقد زرع ابن تاشفين شجرة نسبه العربية والنبوية وبسط سلطانه... واعتمد على العلماء واستقبل الأدباء والشعراء في بلاطه، وكذلك فعل ابنه علي بن يوسف الشهير بميوله العلمية وثقافته العالية. * لا أستطيع في هذا الصدد أن أسرد أسماء قادة الوحدة المغاربية والأندلسية، تلك الوحدة التي لم يطلب قادتها إذنا من فرنسا ولا من أمريكا، الوحدة النابعة من المصلحة الإسلامية العليا وليس من المصلحة القطرية الضيّقة أو الشخصية المكابرة. لكنني لا أستطيع في هذا المجال تجاوز المهدي بن تومرت مؤسس دولة الموحدين العظيمة. لم يفكر ابن تومرت بالمنطق القبلي أو القطري، كان يفكر في عزّة ومنعة الأمة الإسلامية. فأعلن كذلك نسبه العربي الصريح وانتماءه لآل البيت النبوي الشريف، وألف الكتب بلغة القرآن، وخاطب رعاياه بلهجتهم أحيانا، وقد يكون كتب لهم المختصرات بلهجتهم أيضا في الفقه والتوحيد بالحروف العربية. * إن هؤلاء الرجال كانوا قادة، وفي نفس الوقت كانوا مثقفين وفلاسفة وأصحاب مذهب سياسي ومشروع حضاري أسسوا له ودافعوا عنه. وماذا نقول في عبد المؤمن بن علي الكومي، هل تظنون أنه فكر في قبيلته أو في منطقته عندما اعتنق مذهب شيخه الروحي العائد من بغداد بعد دراسته على حجة الإسلام الغزالي؟ لقد رجع عبد المؤمن من طريقه إلى المشرق للدراسة بعد لقائه في بجاية بشيخه ابن تومرت، ولكن هل فكر بأنه سيكون الزعيم غير المنازع لدولة عظمى وحّدت بلاد المغرب والأندلس وجرى أسطولها في عرض البحر الأبيض المتوسط؟ لقد فعل عبد المؤمن ما فعله شيخه ابن تومرت وما فعله ابن تاشفين قبلهما من الانتساب إلى القحطانية وجلب إلى بلاطه في مراكش مثقفي الأندلس وبلاد المغرب ولم يكن يفكر إقليميا ولا قبليا... كان يفكر في أنه خليفة المسلمين في هذه الرقعة الواسعة من دار الإسلام، بينما الصلات السياسية والعلمية ظلت وطيدة مع مراكز العلم والثقافة في المشرق. فمن من حكامنا اليوم يعمل ويفكر تفكير عبد المؤمن أو ابن تومرت أو ابن تاشفين؟ * حتى الدول الأربع التي تقاسمت تراث الموحدين السياسي (وهي الحفصية والمرينية والزيانية والنصرية) كان زعماؤها يفكرون ويعملون على أنهم قادة الإسلام والثقافة العربية في بلاد المغرب. فالازدهار الحضاري في تونسومراكش وغرناطة وتلمسان كان في عصر سادت فيه زناته. وكان القادة يطمحون إلى توحيد بلاد المغرب والأندلس من جديد. لقد حاولوا مدّ سلطانهم ولم يعترفوا بحدود فاصلة في وجه الإسلام وثقافته. فكانت حملات المرينيّين من الغرب وحملات الحفصيين من الشرق مسرحها الجزائر وطرابلس والأندلس، وكلها تهدف إلى تحقيق الوحدة. نعم قد يقال اليوم إن الزمن غير الزمن وإن الظروف الدولية غير الظروف السالفة، ولكننا لا نشعر بأي جهد من أي قائد في اتجاه الوحدة وكأن القوم راضون كل الرضى بما عليه الحال الذي تركه الاستعمار. * وهكذا فنحن الآن مدينون، رغم ثلاثة قرون من العهد العثماني وقرن وثلث من الاستعمار الفرنسي، في حفظ حضارتنا العربية الإسلامية لقادة الدول الأربع سالفة الذكر. فكتب الطب والرياضيات والفلك والعلوم والرحلات والتاريخ والتراجم والفلسفة ودواوين الأدب والشعر تكاد تكون من إنتاج العلماء الذين تخرجوا من بلاطات الدول المذكورة. إنه إنتاج عربي إسلامي مغاربي بلغ رغم الضعف السياسي درجة عالية من الرقي والإبداع. * لو كان قادتنا قد أشربوا حقائق هويتهم وحفظوا كلام قادة الأمة السابقين لوجدوا فيهم قدوة حسنة ولكانوا هم قدوة لشعوبهم في العصر الحاضر. لقد رأينا وسمعنا وتعلمنا عن قادة الغرب المؤهلين للقيادة أنهم حين يخاطبون شعوبهم يستشهدون بأقوال وأمثال ومواقف الساسة والمفكرين السابقين لهم ويذكرون جمهورهم بما قال الحكيم أو العالم أو السياسي المستمد من حضارتهم، فيكون هناك تواصل بين الأجيال وتلاحم في الهوية، ولتخلصنا من آراء الأجانب في صياغة أو تأويل هويتنا، حتى أصبح يصدق جوليان وآجرون ويكذب الميلي والمدني، ويقدم رأي كاميل صابتييه على رأي ابن باديس، ونعجب »ببطولة« المارشال كلوزيل وبوجو ونطعن في مقاومة الأمير عبد القادر والمقراني. * ومن اللافت أن قادتنا اليوم قد يرددون أسماء بعض مفكري وقادة الإسلام ويستعملونها »ديكورا« وعناوين متحفية أو طقوسية يترحمون عليها ثم يرجعون بنا إلى واقع كل ما فيه مخالف لما عرفت به تلك الأسماء من علم وفكر ومواقف. ما الفائدة إن نحن أحيينا ذكرى الشيخ ابن باديس ثم لا نطبق مشروعه الوطني؟ ما قيمة نصب تمثال للأمير عبد القادر ثم ندير ظهرنا للقيم الحضارية التي وضعها لتحرير بلاده وإنشاء دولته؟ وأي مغزى أن نعجب بآراء الأستاذ ابن نبي في الحضارة الإسلامية والغربية ثم لا نطبق آراءه على حياتنا الحاضرة. وربما أتهم بالمبالغة إذا قلت ما الجدوى من أن نكتب في الدستور أن الإسلام دين الدولة ثم نطبق في حياتنا قانون نابليون؟ ورغم أنني قصرت الحديث هنا عن الجزائر فإنه يمكن أن ينسحب على كل أقطار المغرب العربي. * ويمكنني الاستمرار في هذا الحديث وضرب أمثلة أخرى فيها موعظة وعبرة لأن الموضوع مفتوح والقلب مجروح. ولست في مقام تلخيص ما قلت ولا صياغة توصيات واقتراحات، فأنتم أدرى بهموم هذا البلد وأدرى بمشاكل بلاد المغرب خاصة وبلاد العرب والمسلمين عامة. أما الأندلس فلا حديث عليها اليوم لأنها دخلت كهف النسيان، ولكن يجب العمل حتى لا تغتصب أندلسيات أخرى من أيدينا. * علينا الآن أن نسأل الجيل الحاضر عما دون للمستقبل أيضا، إنه ربما يكتفي بلعن تاريخ بلاده الذي يتلخص عنده في السلطة والقيادة وتبذير الثروة والمال العام، وهو في ذلك على حق، فأنت إذا سألت مسؤولا: على أي أساس من المؤهلات العلمية والتاريخية والسياسية أصبح مسؤولا عرفت أنه بالنسبة للتاريخ لم يدرس لا تاريخ الجزائر ولا تاريخ الإسلام وحضارة شعوبه، وكل ما عنده من العلم بالتاريخ قد لا يزيد على رزمة من المعارف العامة مستمدة من مطالعات في كتب ابتدائية فرنسية موجهة. * * تشويه الهوية * فلا غرابة والحال كذلك أن شوهت هوية الجزائر الحاضرة حتى أصبحت لا هي عربية ولا هي إسلامية ولا هي لائكية بالتمام والكمال. ادرس أفكارنا الاجتماعية والسياسية كم هي متباينة، وتأمل في محيطنا كم فيه من لغة للخطاب ومن حرف للكتابة، وانظر إلى طعامنا وشرابنا ولباسنا وفنوننا الشعبية فستجد أنها في أغلبها لا شرقية ولا غربية. ولذلك لم أستغرب حين سألني بعض الشباب الجامعي سؤالا يقضّ مضجعهم، وهو: من نحن؟ إن هذا السؤال يعبّر بلا شك عن الخواء الفكري الخطير عندهم. وفي مناسبة حديثة طلبت مني إحدى الطالبات إلقاء محاضرة على جمع من زميلاتها، فسألتها في أي موضوع فقالت: في المواطنة في ضوء العولمة. * ترى من بث في عقول الجيل الصاعد أنه بدون هوية وأن فكرة المواطنة غائبة أو غائمة في ثقافته الوطنية، فأصبح هذا الشباب لا يحترم مواطنيه حين يخاطبهم بلغة أجنبية مكسرة ويكتب لهم إعلانات مشوهة بنفس اللغة على واجهة الدكاكين وحتى على أكياس الخبز؟ ومن زرع في قلب هذا الشباب كره الذات وقابلية الانحراف عن مسار تاريخ بلاده وأهله؟ ولماذا كان الجيل السابق أكثر فقها للتاريخ والوطنية من الجيل الحاضر. * لقد كاد يختفي من ساحتنا من يطلب عقد ندوة فكرية للمقارنة بين تيارين يتنازعان قيادة البلاد، أو تنظيم ملتقى عن العلاقة بين الجزائر والبلاد العربية، أو عن دور الجزائر في تحرير العالم الثالث، أو دورها في توحيد المغرب العربي أو حتى دورها في الوحدة العربية أو الإسلامية، أو مكانة أسطولها في العهد العثماني. لقد حلت محل ذلك كله مهرجانات لأشخاص محليين أخرجوا من قبورهم وملتقيات توصف بالدولية وهي في حقيقتها شوفينية سافرة. * * ضحايا المدرسة الاستعمارية * أعتقد أننا جميعا ضحايا المدرسة الاستعمارية، والمؤسف أننا لا نشعر بذلك، وهذا أخطر ما تمر به النفس البشرية من سحق وإلغاء. فجيلنا الذي أصبح مخضرما لم يدرس التاريخ في مدرسة رسمية بمنظومة تربوية موحدة. إن معلوماتنا التاريخية لا تعدو كونها قراءات حرة للبحث عن جذور الحركة الوطنية وأصول الحضارة العربية الإسلامية. ومن اللافت للنظر أن مفهوم التاريخ لم يكن واحدا عند الأحزاب والمنظمات الوطنية. * بصراحة إن مفهوم التاريخ عند حزب الشعب ليس هو بالضرورة مفهوم التاريخ عند جمعية العلماء. فالحزب كان يستند على التاريخ القطري برؤية أوروبية، أما الجمعية فقد كانت تستند على العروبة والإسلام برؤية حضارية مشرقية. وربما يفسر ذلك بعض الأحداث التي وقعت زمن الثورة، وأبرز الأحداث هو استئثار تيار حزب الشعب بالتربية والثقافة، بالتعاون مع التيار الفرنكفوني بينما استبعدت جمعية العلماء من صوغ الإيديولوجية الوطنية بعد الاستقلال. وكان لذلك الإبعاد نتائج خطيرة على مسيرة الجزائر نحو استعادة شخصيتها الوطنية والقومية. فقد اعتمدت السلطة عندئذ على بعض المفكرين الجزائريين المتأثرين بالحداثة الأوروبية، وفي نفس الوقت، أعطت مقاليد المسيرة الفكرية لبعض المغامرين الباحثين عن حقل تجريب لأفكارهم فوجدوا في الجزائر أرضا خصبة للتجريب والمحاولة. أما جمعية العلماء التي كان لها مفهومها الخاص لتاريخ الجزائر وللهوية الوطنية فقد وجدت نفسها مهمشة وربما في خانة المغضوب عليهم. وليت حزب الشعب بقي هو المسيطر على الوضع الفكري في البلاد. إنه للأسف لم يتفطن الى أن الماء قد جرى من تحت قدميه وأن التيار الفرنكفوني قد حل محله بدون ضجيج. ونحن نعيش اليوم تداعيات ما حدث لكلا التنظيمين: حزب الشعب وجمعية العلماء، فكلاهما زحزح عن دائرة القرار، ولذلك لا نستغرب أن تعيش الجزائر اليوم الوضع الذي وصفناه وهو الشك في الهوية. * * الوعي الوطني والوعي بالتاريخ * ويمكن القول إن الوعي الوطني عندنا كان أسبق من الوعي بالتاريخ على خلاف القاعدة التي تقتضي أن يسبق الوعي الوطني شعور بالذات وبالهوية بعد يقظة بدراسة التاريخ والتراث والشعور بالاعتزاز بهذا التراث والانتماء إليه، كما حدث مع أغلب الحركات الوطنية كاليونانية والألمانية. ومع ذلك فالوعي بالتاريخ عندنا حين ظهر مع جمعية العلماء وحزب الشعب كان يدفعنا إلى الحماس وليس إلى التأمل، إلى الحركة وليس إلى التفكير، حتى لقد قال بعض القادة في وقت لاحق إننا كنا نعمل قبل أن نفكر. * لذلك لجأ جيلي الذي تولى التدريس بعد الاستقلال إلى كتابات الفرنسيين عن الجزائر، لأننا بعدنا عن تراث الأسلاف، ولم يترك لنا الجيل السابق مثلا يحتذى به. إن الكتابات الفرنسية تهين الأهلي وتصفه بالبدائية والبعد عن حياة المدينة والتحضر، كما تصفه بأنه قابل للغزو الأجنبي وأنه دائم الثورة على السلطة ولا يخضع إلا للقوة والقهر. ولذلك لم يسهم في نظرها في بناء المدن وإنشاء المدارس والقصور والمتاحف، ولم تظهر فيه طبقة برجوازية تتذوق الفن والأدب والفلسفة وتناقش الأفكار في الصالونات والأندية. هذه هي نظريات إيميل غوتييه وألفريد بيل وأرنست ميرسييه... أصحاب المؤلفات المؤثرة التي تنطلق من التعامل مع الإنسان الأهلي على أنه يعيش في نوع من (الإسلام الجزائري) يتميز بممارسة طقوس فلكلورية والشعوذة والخرافات وقراءة الأوراد والرقص الهستيري أو الجذب على يد بعض أدعياء التصوف. * وبدل أن نسارع بتصحيح هذه النظرة لتاريخنا بعد الاستقلال ووضع برنامج دقيق لتطهيره من الشوائب تركنا المقاليد بيد أصحاب المدرسة الفرنسية التي اعتمدت على زعزعة أنسابنا وعلاقاتنا الاجتماعية وعلى تشويه الأحداث التاريخية، بما فيها الفتوحات الإسلامية. وهكذا أصبح غوتييه عند الجيل الجديد أصدق رواية عن أنسابنا من ابن خلدون، وأصبح ميرسييه أعلم من ابن عبد الحكم وابن حزم، كما أصبح الضابط لويس رين أفقه من الأمير عبد القادر. أما هانوتو فقد أصبح هو العمدة فيما يتعلق بالعادات والتقاليد والأنساب في بلاد زواوة وأعلم من علماء وشيوخ زواوة أنفسهم. وقد نقل معلمو عهد الاستقلال آراء هؤلاء المتحاملين المسبقة إلى تلاميذهم وكانوا يثقون فيها ثقة مطلقة، فكانت النتيجة أن صار الجيل الحاضر يعيش فترة قلق وإحباط، فترة شك وبحث عن التاريخ والهوية والمواطنة كما ذكرنا. * * التاريخ في محل هاتف عمومي * قصدت ذات يوم محل هاتف عمومي لتعبئة هاتفي المنقول، فلما عرف صاحب المحل وهو شاب يظهر عليه النبل والذكاء اختصاصي قال منبهرا: إن لديه (فلاش ديسك = أو قرص وامض) يحتوي على تحقيق حول الحضارة العربية في الأندلس وقامت بالتحقيق فضائية فرنسية، ومدة عرضه ساعتان، وهو يحتوي على نماذج من التحف المعمارية الراقية ويصف آثار قرطبة ويتحدث عن علمها وعلمائها، كما يتحدث عن مدن أخرى مثل طليطلة (طوليدو) وغرناطة وإشبيليا... فلما انتهى الشاب من التعبير عن انبهاره قال إن امرأة فرنسية شاركت في الحصة وعبّرت عن دهشتها مما وصل إليه العرب من رقي في وقت كانت أوروبا تعيش عصر التخلف. فقلت لهذا الشاب المهذب: ليت أمثالك يعرفون أن الحضارة التي تتحدث عنها هي من صنع آبائكم وأجدادكم، وليتكم تعرفون ذلك من أساتذتكم الجزائريين اليوم مباشرة وبنفس الإعجاب والتقدير الذي عبّرت عنه السيدة الفرنسية، وليتكم تعتزّون بماضيكم بدل تقليد نظريات المدرسة الاستعمارية التي تفرق ولا توحد وتبدد ولا تسدد. * وقد أردت أن أشحن ذهن صاحب الهاتف العمومي باعتباره نموذجا لجيل ما بعد الاستقلال، فقلت له: إن التاريخ يحفظ ولا ينسى، إنه يمهل ولا يهمل، وإن ذاكرة الشعوب لا يعتريها الهرم. نعم، ربما ينسى القرطاجنيون ما فعل بهم الرومان، وربما ينسى الحثيون ما أوردهم جيرانهم من سوء العذاب، أما الإغريق فلا ينسون ما فعل بهم الرومان، ولن ينسى اليهود ما فعلت بهم أوروبا، ثم هل تنسى فرنسا فعلة بسمارك وهتلر بها؟ غير أن العرب قد نسوا اضطهاد الأسبان، وها هم بعض الجزائريين اليوم يكادون يتنازلون عن حقوقهم بدعوتهم لنسيان الماضي مع فرنسا. هل من حقهم الدعوة إلى نسيان الماضي؟ أليس هناك أجيال قادمة لها كلمة في مصير بلادها؟ أليست الدعوة إلى نسيان الجرائم الفرنسية كفرا سياسيا وجريمة في حق الأجيال؟ إن موازين القوى والضعف هي التي تتحكم في تخدير الذاكرة لدى الشعوب أو تنشيطها * * الاتحاد الحقيقي والمزيف * حين أنشئ اتحاد المغرب العربي اعتقد القادة أنهم قاموا بفتح مبين وأنهم قد أتوا بما لم يأت به الأوائل. ولعلهم نسوا أن الاتحاد الحقيقي هو الذي قام به المرابطون والموحدون وحاوله المرينيون. نعم، إن قادتنا المعاصرون في الظاهر نسوا دور عظمائنا أمثال يوسف بن تاشفين وعلي بن يوسف وابن تومرت وعبد المؤمن وأبي الحسن المريني. لقد تركوا الدولة القطرية التي باركها الاستعمار ورسخها تحل محل الاتحاد الحقيقي بين شعوب المنطقة. فقد رضي القادة بالوحدة القطرية وكأنها هي القدر المقدور. ولأن تصور قادتنا المعاصرين كان من بدايته خطأ فإن اتحادهم لم يثبت لأنه قام على رمال متحركة من السياسة الظرفية. أما الاتحاد الحقيقي بين شعوب المغرب العربي فهو الذي أشرنا إليه والذي قام على وحدة السكان والجغرافيا، ووحدة الثقافة الإسلامية في إطار وحدة اللغة العربية، ووحدة الفكر والمصير. * لقد أثبت المؤرخون والنسابة القدماء أن سكان بلاد المغرب من أصل واحد، وليس هناك سابق ولاحق أو أصل وفرع كما يحلو للبعض أن يعبر. فالبربر دفعهم الاضطهاد والعوامل الطبيعية من الشرق إلى بلاد المغرب، والمسلمون (عربا وغيرهم) كانوا مدفوعين إليها بالحمية الإسلامية. وهذا التفسير بالطبع لا يرضي مؤرخي الاستعمار الذين كانت لهم رسالة خاصة في الجزائر وأخواتها. لذلك أخذوا يشككون في المصادر الإسلامية عن بلاد المغرب، بينما اعتمدوا على نفس المصادر في غير الأنساب، كالطرق والمسالك والمراكز التجارية وعادات وتقاليد الشعوب الأخرى. فاعتمدوا آراء المسعودي والطبري والمقدسي وابن فضلان وابن بطوطة وابن ماجد والبيروني... في الشرق وأوربا، بينما طعنوا في آراء ابن عبد الحكم وابن جبير والبكري وابن حزم والإدريسي والوزان وابن حوقل... في بلاد المغرب والأندلس. وكأني بابن تاشفين وابن تومرت وعبد المؤمن كانوا يتوقعون حدوث هذا من مؤرخي الاستعمار فبادروا في حياتهم كما قلنا إلى وضع شجرة نسبهم المتصلة بالعترة النبوية الشريفة. * وبقطع النظر عن الأصول، فإن سكان بلاد المغرب قد امتزجوا امتزاج الماء بالماء قبل امتزاج شعوب أوروبا بمئات السنين، وتوحدوا في بوتقة واحدة وحدة لا انفصام لها قبل أن تتوحد الشعوب المهاجرة إلى أمريكا. فكيف يتوحد هؤلاء المهاجرون ويؤسسون إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس والقمر، وتتوحد شعوب أوروبا في اتحاد واسع الأرجاء سنكون نحن أول ضحاياه لو تغيّر الزمن، بينما تبقى شعوب بلاد المغرب تبحث عن هويتها فيما تصنعه لها مخابر الاستعمار. أليست وحدة شعوب بلاد المغرب هي الأعمق والأصلب؟ أليس من المذلة والحمق أن نظل بدون مشروع وحدوي إقليمي أو قومي؟ ما قيمة الثقافة والفكر إذا لم يحركا شعوبنا ونخبتنا في هذا الاتجاه؟ * ترى لماذا هذه الحدود الفاصلة والجدران العازلة والإجراءات المعقدة والموانع والسجلات الأمنية والتأشيرات... اللهم إنك لم تفرض علينا كمسلمين هذا المصير، ونشهد أن هذا التمزيق لم تعرفه الأجيال السابقة التي عاشت للوحدة الحقيقية في إطار الخلافة أو في إطار الدولة الإقليمية. إننا في عصر الدولة القطرية أصبحنا نعيش التاريخ بالمقلوب. فإذا كان الحاضر هو تاريخ الغد، فأي فخر نتركه للجيل القادم؟. * * دالي إبراهيم، 11 أبريل 2008