img border="0" src="photos/ould khlifa01112009.JPG" align="right" width="200" بقلم د. محمد العربي ولد خليفة ماذا يبقي في ذاكرة الأجيال بعد 55 عاما من انطلاق ثورة التحرير الكبرى؟ وما هي الذخيرة الحيّة التي لا تنتهي صلاحيتها لمواصلة التحرير من التركة المغشوشة لفرنسا الكولونيالية وتحقيق حصائل في مجالات البناء الوطني ترقى إلى مستوى تضحيات الشعب الجزائري حتى يكون النصر الذي حققه في خمسة جويلية 1962 نموذجا لحركات التحرر التي لا زالت تناضل في مناطق كثيرة من العالم الثالث ضد الهيمنة والاستغلال والتبعية، وتعتز الجزائر بماضيها الثوري بقدر ما تفخر باٌنجازاتها الراهنة بعقول وسواعد أبنائها. هذا ما تحاول هذه الورقة أن تشير إلى جوانب منه فإذا كان من الصعب أن تنطلق الثورة في منتصف القرن الماضي، فليس من السهل أن تتواصل بنفس الشدة في خضم متغيرات اٌجتماعية وجيوسياسية تتطلب التمييز بين المبادئ الكبرى التي ثبتت صدقيتها بعد أكثر من نصف قرن وبين ضرورات التكيف للمحافظة على تلك المبادئ وتأييدها بالوقائع والمواقف لتكون الثورة وانتصارها بداية وليس نهاية والوفاء لها من واجبات أجيال الحاضر والمستقبل. استخلصت القيادات الشابة في الحركة الوطنيّة، الدروس من تجارب المقاومة والنضال السياسي، في إطار الشرعية الكولونيالية المبنيّة على إشاعة الرعب، والاستفراد بالجزائر، باعتبارها مجرد اٌمتداد لفرنسا يخضع شعبها لقانون الأنديجينا، وهو قانون لا يقل بشاعة عن نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا(Group areas act) الجائر تحت اسم رعايا فرنسا (Sujets français)، وظنت أن عمليات الترهيب والترغيب والإصلاحات السطحية التي سرعان ما تتراجع عنها تحت ضغط لوبيات الكولون، قد أنهت وإلى الأبد روح المقاومة، وأخمدت شعلة الوطنيّة الجزائريّة، وسحقت مقومات الشخصيّة الجزائرية المرتبطة بالإسلام عقيدة نقيّه من الشبهات التعصبيّة، ومسلكيّة تحثّ على الفداء والتضحية،ومقاومة الظلم والأنظمة الاستبدادية، والعروبة اٌنتماء حضاريا، وثقافة عريقة في التراث التاريخي والراهن لكل المناطق الجزائريّة. أولا: بيان أول نوفمبر وتأسيس المجتمع الجديد سواء أكانت ليلة الأول من نوفمبر 1954 مفاجأة للإدارة الكولونيالية ومجرّد صدفة، وهذا الاٌحتمال غير وارد، فالصدفة ليس لها ذاكرة كما يقول ف.بروديل (F.Braudel)1 a pas de mémoire)‘(Le hasard n، أو كانت متوقعة من أجهزتها الأمنيّة والاستخبارية، فإن ما حدث في إشراقة ذلك الفجر كان بكل المقاييس بداية لملحمة شعبية، تجاوزت حساب التوازنات المعهودة في هيئات الأركان والأكاديميات العسكرية. ما هي إذن الخصائص التي ميّزت الثورة الجزائرية؟ 1: نجيب على التساؤل السابق بالإشارة إلى بعض الخصائص التي تميّز ثورة الأوّل من نوفمبر، ونلاحظ قبل ذلك أن التفرد والتميّز لا يعني المفاضلة أو الإنقاص من شأن تجارب أخرى معاصرة لها أو سبقتها، فلكل تجربة سياقها التاريخي، ومعطياتها الميدانية، التي تستمد منها تقنيات الكفاح، وأساليب النضال والمواجهة. ليس وراء هذا التمييز شوفينية أو عصبيّة قوميّة تلغي مكانة الآخر وخصوصياته الاجتماعية والثقافية والجيوسياسية، فنحن نرى أن المعركة مع الكلونيالية واحدة، والكولونيالية تجسيد لنظام الشر الأكبر ولا خير فيها ولا غنيمة ترتجى منها على الإطلاق فهي العدو الأول لكل الإنسانية مهما تعددت ساحات المنازلة، واٌختلفت أسلحتها فهي كما يقول فرانتزفانون (F.Fanon)، تنزع من المستعبد (Dominé) كرامته الشخصيّة وتنزّله إلى أدنى درجات الحيوانية (Animalité)،(61F. Fanon, 19)، أو كما وصفها ميمي (A. Memmi 1999) بأنها وضعية تنزع من المقهور إنسانيته (Déshumanise) وتغتصب حقّه في الإحساس بذاته المتميّزة. 2. تحولت حرب التحرير بعد أقل من سنة إلى ثورة شعبيّة ذات أهداف وطنيّة وتطلّعات إنسانية، لا شرقية ولا غربية، ولا تدين بالولاء لأية إيديولوجية سوى الوطنيّة الجزائريّة الأكثر أصالة وتقدّميّة، نقرأ ذلك في بيانها الأول المؤسس الذي سبق عصره، وكشف لأول مرّة عن مشروع متجدد لمجتمع يرغب في التعايش السلمي مع الجميع ويرى أن الحرب هي خياره الأخير والاضطراري. لا نجد في ذلك البيان كلمة واحدة تدعو الجزائريين إلى حرب دينية أو عنصرية، بل كان البيان عرضا رصينا عمّا وصلت إليه الحال في جزائر منتصف القرن الماضي، واٌقتراحا للحل السلمي، سرعان ما تبيّن فيما بعد أنه كان سابقا لأوانه بالنسبة للقيادة السياسية في باريس، وخاصة بالنسبة للّوبي الاستيطاني المتنفذ في الجزائر. لقد أعمى الطغيان والرغبة في الاٌنتقام من الهزائم الساحقة سنة 1940 على يد ألمانيا الهتليرية، وفضيحة "ديان بيان فو" المهينة للكبرياء الإمبراطوري الذي بدأ في الأفول، أعمى ذلك التكبُّر بصر وبصيرة كل أصحاب القرار السياسي والعسكري والأغلبيّة الساحقة من علمائها ومثقفيها، فلم يصغوا لنداء السلم ولم يفهموا حرفا واحدا من رسالة أول نوفمبر الواضحة جدا. لقد أظهرت الثورة قولا وعملا طابعها الإنساني في بيان الأول من نوفمبر 1954 كما أشرنا فيما سبق وطيلة مسيرة الكفاح التحريري. يقول المرحوم فرحات عباس رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة في الذكرى الخامسة لاٌنطلاق الثورة (1959) في إحدى ومضات فكره السياسي: "أكد المفكرون إن الوطن هو ميثاق يُوحّد بين الموتى والأحياء والذين سيولدون، يُوحّدهم جميعا على نفس الأرض لقد قرر الجزائريون أن لا يبقوا ضحايا لأكذوبة قديمة تجعل منهم أناسًا بلا وطن (Apatride) تمّ تدجينهم، هذا يعني أنه لم يعد في الجزائر مواطنون ورعايا، أناس من عرق أعلى وآخرون من عرق أسفل، بل 10 ملايين من بني الإنسان يتساوون في اٌستحقاق الاٌحترام، ينبغي أن يقبلوا العيش مع بعضهم البعض(...) الجزائر وطن الجميع ستعرف كيف تُعبّئ طاقاتها من أي مصدر جاءت، إن أعداءنا الوحيدين يتمثّلون في الهيمنة الكولونيالية والتفرقة العنصرية والبؤس والمهانة" 3. لم تكن النخبة الثورية معزولة عما يحدث على المستويين الجهوي والدولي، فقد كانت تراقب عن كثب التقنيات الجديدة لحركة التحرر العالمي، وتَطلّع بتدبر وعين فاحصة على نشاطات التنظيمات الثورية في آسيا وأمريكا اللاتينية، وعلى صلة بالتطورات التي حدثت في أوربا، وبروز الاتحاد السوفياتي كقوّة جديدة في مواجهة التكتل الأطلسي، يبحث عن توسيع مجال نفوذه ونشر إيديولوجيته الماركسيّة اللّينينيّة، بل إن تلك النخبة كانت على اٌطلاع على مراكز القوّة المتنقّذة والتيارات الفكرية والسياسية المتنافسة في فرنسا الخمسينيات من القرن الماضي، فقد نشأ النجم- حزب الشعب في الأوساط العمالية الفرنسية وكان على صلة بالحزب الشيوعي هناك، ومنهما اٌستمدّ بعض تقنيات التنظيم وليس الإيديولوجية كما يرى البعض. لقد وظّفت النخبة الثوريّة كل تلك الدروس لخدمة الهدف الأول للثورة، دون أن تقبل الدوران في فلك أي منها عكس ما حدث في فيتنام وكوبا فيما بعد، وكان أقصى ما رغبت فيه هو تعميم ومواصلة الكفاح على المستوى المغاربي واٌنتظار الدعم من القوى الحيّة في العالم وخاصة في المنطقة العربية والإسلامية التي كانت معظم شعوبها تجهل حتى موقع الجزائر على الخريطة الجغرافية. 4. الثورة الجزائرية هي أول توحيد سياسي اجتماعي واسع النطاق للشعب الجزائري أخذ اسم جبهة التحرير الوطني، وهو تنظيم توحيدي وليس أحادي، فلم يقص أي تيار إذا اٌنظمّ إلى العمل الثوري واٌشترك في تحقيق الهدف الأسمى وهو إنجاز الحرية والاٌستقلال. لذلك لم يحاسب أي فرد على اٌنتمائه السابق لأي حزب أو تنظيم، ولم تقص سوى قلّة من عملاء الكولونيالية ورديفها المأجور الذين أعماهم الطمع، وقبلوا حياة الذل تحت أقدام جبابرة الكولون وأجهزة القهر الفرنسيّة، وهؤلاء هم الطابور الخامس المعروف باسم القُوميّة أو الحركة الذين اٌستخدمتهم إدارة الاٌحتلال لغرضين: أولهما:-ضرب جزائريين بجزائريين آخرين كعادتها المعروفة في تجنيد المرتزقة les mercenaires (Légion étrangère)، وثانيهما التخطيط لحرب أهلية، تكون فيها الحكَم، لتتمكّن من تحريف المواجهة، وتنزع عنها عمقها الشعبي الواسع، وبالتالي إقناع الرأي العام العالمي بأن الحرب ليست أكثر من صراع داخلي بين الأهالي يقتل فيها قسم من الشعب قسما آخر بلا مشروع ولا قضية ولا تزال بعض الأوساط تُرّوّج لهذه الأطروحة بأشكال مختلفة من آخرها: (فيلم العدو الحميم) (l'ennemie intime.) ثانيا: الثورة الجزائرية في جوهرها ديموقراطية لقد نجحت الثورة الجزائرية بالتوعية والإقناع والتجنيد وليس بالترهيب والتعذيب كما تدعي أجهزة الدعاية الفرنسية المضادة1، أقول نجحت في تأسيس سلطة معنوية توحيدية، وليس أحادية بالمعنى الشائع اليوم، لو جنحت الثورة إلى استخدام السلطة القهرية، لاٌعتبرها الشعب نسخة أخرى من الإدارة الكولونيالية ورفضها واٌنحاز للأقوى عدة وعتادا وهو فرنسا، ونعرف ما كان عليه شعبنا من فقر ومسغبة في تلك السنوات العجاف. 1. لو كانت الثورة سلطة اٌستبدادية تحكم بالرعب والمذابح الجماعية، كما اٌدعت فرنسا الكولونيالية، لما اٌنظمّ إليها رجال ونساء من كل الطبقات، بل اٌلتحق بها بعد سنوات قليلة من اٌنطلاقها ضباط اٌنخرطوا في صفوف الجيش الفرنسي، وشاركوا في حروبه في أروبا وآسيا وإفريقيا وغيرهما، وحصلوا على أوسمة ونياشين تقديرية، وقد كان لتلك الإطارات دور هام في القيادة العسكرية لجيش التحرير والتنظيم والتدريب، ويرى البعض أنهم شكلوا النواة الأولى للجيش الوطني الشعبي الحديث، ويرى البعض الآخر غير ذلك، ونؤكد مرّة أخرى أنّنا لا نرى جدوى من الخوض في درجات الوطنية لأي فصيل من المدنيين والعسكريين، والأهم في رأينا أن يُدوّن التاريخ العسكري للجزائر بوجه عام، وتاريخ جيش التحرير والجيش الوطني الشعبي بوجه خاص. حقا لقد فرضت الثورة على مناضليها في كل المواقع والمراتب والمسؤوليات، الاٌنضباط وصرامة تنظيمية تمنع التخاذل والتسلل والاٌختراق، وألزمت القيادات والخلايا المنتشرة داخل القطر وخارجه على حد سواء بالسريّة والكتمان، وبأخلاقيات تقترب من المثالية، حتى يكون للتضحية معنى، وكان الكل مدركا بأن الحساب يبدأ بالضمير الفردي، وأن الخطأ والغفلة عن دسائس العدو تكلّف الجزائر كلها ثمنا باهضا، ومن هذه المسلكية التي تنشد الكمال بقي في الجزائر إلى اليوم اٌتجاه لا نظير له في البلاد الأخرى، هو الإحساس بالمساواة المطلقة (L'égalitarisme primaire) . 2. على الرغم من التسيير الديموقراطي لمؤسسات الثورة وسخونة، لكي لا نقول حدة المداولات فيها، فإنه لم يكن بالإمكان التقيد بآليات الديموقراطية1 وإجراءاتها التقليدية الممكنة والمطلوبة في زمن السلم، فقد كان من المحتمل جدا أن يؤدي ذلك إلى تشتت صفوف الثورة والعودة إلى ما كان عليه الحال في عقد الأربعينيات، فضلا عن خطر اٌستقطاب الثورة وظهور أجنحة وزعامات من الوارد أن تؤثر عليها وتُوجّهها قوى أجنبية في المنطقة وخارجها، ونرى اليوم ما آل إليه أمر الكفاح الفلسطيني بعد نصف قرن من التضحيات الكبيرة أهدرتها الوصايات وتبعيّة الجماعات والأحزاب لسياسات الجيران، حتى أنها تنوب عنهم تحت شعار ما يسمى قضية العرب والمسلمين الموظّفة بطريقة ميكيافيلية، والنتيجة هي التجزؤ والسقوط في حلقة دائرية من الهزيمة إلى التنازل وتمييع القضيّة الأصليّة وهي الاٌحتلال، وعدم التعامل مع إسرائيل كلها كظاهرة كولونيالية، وأخطبوط اٌستيطاني له اٌمتداد عالمي لا مناص من اٌستنزاف قواه من الداخل بواسطة الحرب الشعبية . (Guerilla) 3. من تلك القوة التوحيديّة خرج جيش التحرير الوطني، وتتكون الأغلبية الساحقة منه من ريفيين وفقراء مُهمّشين في أحزمة البؤس على حافة المدن، رجال ونساء سحقتهم الغربة في عقر دارهم، وهم مثخنون بجروح عميقة من جراء طغيان الاٌحتلال، وما يقوم به من تنكيل يومي برموزهم الوطنية وشرفهم الفردي والجماعي. لقد عبر ماكس فيبر (M.Weber) عن هذه الوضعية بمقولة صدقت في كل الحالات المشابهة ومؤداها: "أن الأمة قد تنسى ما يلحق بها من حرمان مادي، وإن طالت مدته، ولكن لا تغفر أبدا أن يهان شرفها!" 4. من نسيج تلك القوّة التوحيدية نشأت جبهة التحرير الوطني باٌعتبارها تنظيما سياسيا يحمل مشروعا ونظرية في التحرير، تسعى إلى تغيير الواقع المأساوي لشعبنا، بواسطة التعبئة وتوحيد الصفوف، وتصعيد السخط على الكولونيالية وطوابيرها العميلة، وفق مرجعية اٌمتزج فيها الإسلام بالوطنية اٌمتزاج الشمس بضوئها، جمعت تلك التركيبة الأصيلة بين الإسلام النضالي الطاهر من شوائب الشعوذة والتسييس الذرائعي، وبين تقاليد الوطنية، وتراث شعبنا الممتد عبر آلاف السنين، فقد كان ذلك المزيج ينهل من منبع متعدد الروافد ولكنه يتدفق في مجرى واحد إنه في تماسكه أشبه بعلاقة الشجرة بجذورها والأغصان بأزهارها وثمارها. من يزايد اليوم على جهاد جيش وجبهة التحرير، بجهاد آخر يتجاوزه أو يساويه؟ لقد كان الإسلام في جزائر الثورة روحانية تحثّ على جهاد النفس وتدعو إلى التضحية في سبيل مثل الحقّ والحريّة. هل ننسى أن المناضل في جبهة التحرير والجندي في جيش التحرير، كان يعطي كل شيء بما فيه حياته، ولا يطلب شيئا، بل عليه أن يبرهن بالتضحية والفداء على اٌستحقاقه لذلك الاٌنتماء؟ 5. لقد أشار المفكر الجزائري محمد حربي (M.Harbi 1992) في كثير من كتاباته إلى مسألة خصوصية الثورة الجزائرية واٌعتبرها مع الباحث الجزائري الهواري عدي المعبر إلى ما سماه الطوطاليتارية الدينية (Totalitarisme religieux)، وقد أضاف الأخير) (H.ADDI 1994 اٌستنتاجا عمّمه على جزائر الثورة وما قبلها وما بعدها، فالجزائر في رأي هذا الباحث المتردد بين فرنساوالولاياتالمتحدة، بلد عاش على الدوام في وضع مواجهة بين الشعب والثكنة العسكرية (Face à face garnison société) من العهد العثماني إلى اليوم( !) 6. إن التفسير الذي أعطاه م.حربي للخصوصية يقوم على الحتمية التاريخية ومقولاتها المغلقة التي تتحكم سلفا في حركية التاريخ، ونحن نحترم رأيه ومذهبه، فقد كان واحدا من قيادات الجبهة، ولكننا نرى أن التاريخ من صنع الإنسان وللتاريخ تأثير في تحولات المجتمع لا يمكن تخطيطها وتنفيذها حسب برنامج إلزامي، ولو كان واضعه هو ماركس. أما النظر إلى الثورة باٌعتبارها جيشا يسوق شعبا كما تساق قطعان الأغنام، في رأي عدّي، فإنه رأي لا يختلف من حيث التحليل والتدليل عما تقوله الأدبيات الفرنسية المتعلقة بجزائر ما قبل 1830 وما بعدها، وهو ما لا تقوله تلك الأدبيات عن الثورة الفرنسية التي تحولت بعد أقل من عقدين إلى إمبراطورية عسكرتارية تجتاح أروبا من شواطئ الأطلنطي إلى ما بعد جبال الأورال وبلدان أخرى على يد نابليون، قبل أن تعود إلى ما قبل الثورة تحت راية الملكية فيما يُسمّىLa Restauration 1848-1815) ) 7. إن من أهم خصوصيات الثورة الجزائرية هي أنها لم تكن مطلقا من صنع أمراء الحرب ((Seigneurs de guerre أو صراعا بين الطبقات، ولم تستدرجها الإيديولوجيات والتكتلات المتصارعة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، ولم تكن أبدا ثورة للتصدير والتوسُّع الإيديولوجي، بل هي إلى حد كبير ثورة مثالية، تضامنت قولا وعملا مع كفاح الشعوب المضطهدة وساندتها وهي في أوج الكفاح اٌنطلاقا من مبادئها التحررية، وبلا أدنى شرط أو قيد، وعبرت عن عرفانها وتقديرها الدائم لكل المتعاطفين معها وأنصارها في الوطن العربي الإسلامي، وأشادت في كل فرصة بمؤيديها في كل أرجاء المعمورة، وفي فرنسا بالذات، إنها ثورة ذات أبعاد اٌنسانية تحررية قاعدتها ديموقراطية تنشد السلام القائم على اٌحترام الحرية والتعلق بالعدالة والسيادة الوطنية التي حُرم منها شعبها أمدا طويلا، ومن حقه أن لا يفرط فيها مهما كانت المصاعب والمتغيرات الطبيعية والمفتعلة في الداخل، والتأثيرات المستجدة في المحيط الجهوي والدولي. ثالثا: العمق الشعبي لثورة التحرير الوطنية إذا كانت الثورة الجزائرية هي خلاصة للوطنية الجزائرية في أبعادها التاريخية والإنسانية ونموذج مبتكر في حركة التحرر الوطني والعالمي، فهي كذلك في جوهرها ديموقراطيّة إذ هي خلاصة تجربة النضال وصمود الشعب الجزائري، إن جبهة وجيش التحرير الوطني مثّلا الإرادة الحقيقية للتخلص من اٌغلال الكولونيالية وإعادة تأسيس الدولة الوطنية شاركت في التضحية من اجلها وإنجازها الأغلبية الساحقة من الجزائريين داخل الوطن وفي المهجر. رابعا: من مكاسب النصر الأساسية توّجت الثورة أهمّ مكاسبها بتحقيق وحدة ترابية لا يتنازل عنها أحد من ملايين الجزائريين، فقد حاولت الحكومة الفرنسيّة برئاسة دوغول إلى آخر لحظة فصل الصحراء عن الشمال، ومن بين الحيل التي اٌستعملتها لمواصلة تجاربها النوّوية المهلكة واٌستغلال موارد الطاقة، الاٌدعاء بأن الصحراء بحر له جيران، الجزائر واحد منهم ولا بدّ لفرنسا من اٌستشارتهم، كما جاء في تصريح للوزير بومبيدو (G.Pompido). إن أرض الجزائر غالية الثمن لا تقبل التجزئة والتقطيع. كما أن الجزائر لم ولن تطلب التوسُّع والمزيد من أراضي الغير، فلم يخرج جيشها منذ الاٌستقلال للعدوان أو السطو على تراب أي بلد في الجوار المغاربي والإفريقي، إنه مؤسسة دفاعيّة مهمتها الأولى والأخيرة حماية وحدة التراب الوطني وأمنه، بما يعنيه مفهوم الأمن في هذا القرن الجديد. لا شك أن أعظم ما توجت به الثورة مسيرتها الكبرى هو تحقيق وحدة وطنية راسخة قد تكون أحيانا في حالة كمون (Latence) ولكنها سرعان ما تبرز قويّة ناصعة عند تعرضها للتهديد وفي أوقات النكبات، فالأغلبية من المواطنين لا تتنكر لجزائريتها الراهنة والتاريخية، ولا تضيرها أعراض القلق والغضب والاٌحتجاجية(contestation) التي يلوم فيها البعض دولتهم بقساوة. إن مثل تلك المشاعر تطرأ حتى داخل الأسرة الصغيرة، وهي في حاجة إلى دراسة معمقة عن صورة الدولة في نظر المواطن، وتأثير غياب الدولة الوطنية لأمد طويل قبل 1962، ومن المهمّ تربية الأجيال على أهمية التوازن بين حقوق المواطنة وواجباتها، تُذكّر الراضين والساخطين بمقولة جون كينيدي رئيس الولاياتالمتحدة الأسبق عندما اٌحتج أمامه أحد مواطنيه قائلا: إن أمريكا لم تُقدّم لي أيّ شيء، فأجابه كينيدي بقوله: إسأل نفسك أيضا ماذا قدمت أنت لأمريكا؟! في حياة الأمم والشعوب أحداث كبرى يتسارع فيها التاريخ إلى الأمام، ويتردّد صداها عبر أجيال متعاقبة، وتصبح بسبب نتائجها الحاسمة من الموجِّهات الأساسية لنظام الدولة والمجتمع، قد يتبناها بعض الساسة والمفكرين، وقد يبتعد عنها البعض الآخر، ولكن ليس بالإمكان تجاهلها، فهي تكتسب صفة المرجعية وقد يتجاوز تأثيرها حدودها الجغرافية، وهذا هو شأن الثورة الجزائرية. ينبغي أن لا نغفل عن معاينة ظاهرة طبيعية تتمثل في وصول الجيل الثالث من شبابنا إلى مواقع قيادية في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني، وهم في هضبة العمر ما بين 30 و 50 سنة. لقد كان الصراع وما زال بين إرادتين، أولاهما إرادة تسعى لفرض الشرّ والظّلم والاستبداد الأكبر وهو الكولونيالية الاستيطانية، والثانية: إرادة تكافح من أجل الحرية والانعتاق تحمل بشائر الخير والأمل. من الممكن أن يختلف الناس في تصنيف أسباب الثورة وتفسير دوافعها ومواصفات القيادات والفاعلين، وأن تتباين الآراء في الحكم على أشكال المواجهة مع العدوّ، ولكن التوغُّل في الزمن سوف يحوّل الثورة إلى مجموعة من القيم والمثل والمعالم المستقرة في الذات الجماعية للأمّة، تختفي منها تفاصيل التاريخ المباشر وتبقى منها الخلاصة المكثفة للتجربة النضالية والمثل المؤسسة للجزائر الجديدة، بمعنى أنها تُعتمد باٌعتبارها فاصلة بين عهد ولّى غير مأسوف عليه، وعهد آخر أقبل بمرجعية جوهرها هو الحرية والتقدم والعدالة وتحديث الأصالة وأصالة التحديث، وتعني المصالحة مع ذاتنا التاريخية والحضارية والسعي للحضور الفاعل في عصرنا بالعلم والوطنية بهما معا نحمي وطننا ونعتز بأمجاده ويتخلص شبابنا من مخلفات وعقد عهد الاحتلال البائد، وتحث بلادنا الخطى نحو التقدم وتجتاز فجوة التخلّف عدونا الثاني بعد الكولونيالية وممارساتها الإجرامية وتقلل من تهديدات القوى المهيمنة وما تفرضه التبعية من شروط تنال من الكرامة والسيادة الوطنية اللتين اٌستعادها شعبنا بثورة كلفته مئات الآلاف من الشهداء الأبرار، وضحى فيها بالقليل مما لديه، فقد كانت أغلبيته الساحقة في أقصى حالات البؤس والمسغبة.