دخل الشيخ الدكتور عبد اللطيف بن عبد العزيز آل الشيخ، مساعد أمين ثان عام هيئة كبار العلماء في المملكة سابقاً، المستشار الخاص السابق لأمير الرياض، ساحة الجدل الدائر حول الاختلاط، الذي أصبح واقعاً تعيشه المملكة السعودية، بينما يستمر السجال بين فئات عريضة من المجتمع والمتشددين على أعمدة الصحف ووسائل الإعلام. جريدة »الجزيرة« أفردت مساحة كبيرة لهذا الرأي الجديد لتثير النقاش من جديد بعد أن ظن البعض أنها هدأت عاصفة الشيخ أحمد قاسم الغامدي، الذي خاض معركة عنيفة بسبب رأيه. الشيخ عبد اللطيف، الذي غاص في بحور النصوص الشرعية، يؤكد بطلان نظرية المعارضين من خلال إيراده النصوص الشرعية التي تفرِّق بين فعل الخلوة المحرمة والاختلاط المباح. وأوضح أن الاختلاط الذي كان في عهد أصحاب السماحة والفضيلة لا يتعارض مع ما بينوه في كتبهم وفتاواهم من الصور المحرمة للاختلاط، وإلا لتعارض قولهم مع فعلهم التي أوضحها كاتبُ المقال. لقد اتفقت الأمة على أن الشريعة وُضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: »الدين، النفس، العقل، النسل والمال. وهذه الضروريات إذا فقدت، أو إحداها، لم تستقم مصالح العباد، بل يحصل الفساد العظيم والهلاك للعباد في الدنيا، وفوت النجاة في الآخرة. لقد كثر الكلام هذه الأيام عن مسألة الاختلاط. والمقصود به اختلاط الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد. وانقسم المتكلمون فيه إلى فريقين أو قسمين، أحدهما أصدر عليه الحكم بالتحريم المطلق، والفريق الآخر أجازه على الإطلاق؛ ما جعل الناس في حيرة من أمرهم، وأصبحوا بين التشدد المذموم أو الانفلات المحرم. إن الشريعة -ولله الحمد والفضل- فيها التيسير ورفع المشقة عن العباد، ولا يُخفى عن أحد من المسلمين في بلادنا حال الناس وما يمارَس في الواقع من اختلاط في الأسواق والأماكن العامة ودور العبادة، كالحرمين وما يحصل في موسم الحج، وغير ذلك من التجمعات البشرية. فهذا الاختلاط الذي فرضته الحاجة والضرورة، وهذه الممارسات ليست وليدة اليوم أو هذا الزمان، وإنما كانت موجودة منذ أزمنة قديمة، بل كانت موجودة في صدر الإسلام، ولم تأتِِ الشريعة الإسلامية بمنعه على الإطلاق، بل أجازته في حدودٍ تكفل الحرية المنضبطة بالضوابط الشرعية للمرأة، مع المحافظة على الأعراض، وتمنع الوقوع في المحظورات المحرمة، فوضعت ضوابطَ وقيودًا واضحة صريحة لا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتجاوزها، ومن لم يلتزم بهذه القيود فقد وقع في الاختلاط المنهي عنه، وهو المحرَّم، ولا بدَّ من عدم الخلط بين الخلوة والاختلاط. فالخلوة: هي اجتماع رجلٍ مع امرأة أجنبية عنه بغير محرم في مكان منفردين فيه، في غيبة عن أعين الناس، وهذه الخلوة محرمة. والدليل على تحريم الخلوة ما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما- حيث قال: »سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم- يخطب يقول: »لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم«. وما رواه عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: »لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما«. وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلونَّ بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فإن ثالثهما الشيطان«. وعنه رضي الله عنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »لا تلجوا على المغيبات، فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم«؛ أي لا تدخلوا على النساء اللاتي غاب أزواجُهن بسفر ونحوه. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: »إياكم والدخول على النساء«، فقال رجل من الأنصار: »يا رسول الله أفرأيت الحمو؟«، قال: »الحمو الموت«، والحمو هو قريب الزوج، الذي لا يحل للمرأة كأخيه وابن عمه. إلا خلوة في حالة الضرورة كمن يجد امرأة تائهة في صحراء ولا يوجد غيرُهما، أو امرأة في قعر بئر تحتاج إلى من يخرجها، ونحو ذلك من الحالات والضرورات الملجئة؛ فهذه الخلوة ليست بمحرَّمة، بل يجب على الرجل أن يقوم بإنقاذ المرأة وإيصالها إلى مأمنها ولو كان غير ذي محرم. والحكمة من تحريم الخلوة هي سد للذريعة الموصلة إلى الفاحشة أو الاقتراب منها. والعلماء حين يحرِّمون الاختلاط إنما يريدون الاختلاط المطلق عن كل القيود أو الاختلاط المستهتر الذي لا تؤمَّن معه الفتنة؛ فالاختلاط الجائز له ضوابط مثل الالتزام بعدم التبرج، وكشف المرأة ما لا يجوز لها كشفُه، وأن يكون الاختلاط في حدود ما تفرضه الحاجة دون إسراف أو توسع أو تعطيل عن واجبها الأساس في رعاية البيت وتربية الأبناء. الرياض عاشت الاختلاط وفي الختام أجد أنه من المناسب التذكير بأن من عاش في مدينة الرياض في سنوات خلت قبل 1390ه تقريباً، يتذكر ولا ينسى ما كان فيها من حركة تجارية وأسواق تزخر بالكثير من الباعة رجالاً ونساءً، يعملون في اكتساب الرزق الحلال من خلال البيع والشراء ببساطة ويُسْر، وكلٌّ على قدر ما يتيسر له من ثروة ورأس مال. ولا أنسى سوق المقيبرة، وهو السوق الرئيس في هذه المدينة، والطريق الممتد من الجنوب إلى الشمال، وهو الشارع الذي يُعتبر أكثر كثافة بالباعة على يمينه وشماله من الرجال والنساء ببسطات تحوي كل ما يحتاج إليه من يقصد السوق من ملابس جديدة وقديمة ومواد غذائية وحتى السمن والذهب والحلي... مما يُباع ويُشترى، والباعة من النساء والرجال غالبيتهم من أبناء الوطن، وكذلك سوق حلة القصمان شرق الرياض، وسوق منفوحة جنوبالرياض، وكان الناس لا يرون من ينكر عليهم أو يعكِّر صفوهم. وكانت الرياض في ذلك الوقت تزخر بالعلماء الكبار الأجلاء، أمثال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عمر بن حسن آل الشيخ رئيس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسماحة الشيخ عبد الله بن حميد، وغيرهم من المشايخ والعلماء رحمهم الله جميعاً، وكانوا يعلمون بهذه الأسواق، ولم نسمع عنهم أنهم اعترضوا عليها أو أنكروا على من فيها من الباعة، وهم أصحاب كلمة مسموعة ورأي سديد، وكانوا يحظون بالاحترام الوافر والتقدير عند ولاة الأمر وعند الناس، وكان نصحهم مقبولاً عند الجميع ولا تُردُّ لهم نصيحة أو مشورة، فرحمهم الله«.