الشيخ: محمد راتب النابلسي الإيمان بالقضاء والقدر من العقائد التي يجب أن تعلم بالضرورة. وواجب إيماننا بالقدر و بالقضاء كما أتى في الخبر لقوله صلى الله عليه وسلم : (( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره )) (رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي) والقضاء تعلق علم الله وإرادته بإيجاد الأشياء على وجه مخصوص والقدر إيجادها فعلاً على هذا النحو. تعلق القضاء بالعلم وتعلقت الإرادة بالقدرة والفعل وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك علاقة بين توحيد الألوهية وبين القضاء والقدر فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الديلمي بمسند الفردوس : الإيمان بالقدر نظام التوحيد النتائج النفسية التي يحققها الإيمان بالقضاء والقدر فيما رواه الحاكم في تاريخه : الإيمان بالقدر يُذهب الهم والحزن . ولكن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الخوض في موضوع القضاء والقدر والبحث في مكنون أسرارهما لأن المخلوق الحادث لا يستطيع أن يدرك علم الخالق القديم فقال صلى الله عليه وسلم : (( إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا وغذا ذُكرت النجوم فأمسكوا وإذا ذُكر القدر فأمسكوا )) [رواه الطبراني وابن عدي بسند حسن] والمؤمن يجب أن يعتقد أن جميع أفعال العباد وكل حادث في الكون إنا هو بقضاء الله وقدره ولكنَّ مشيئة الله شاءت أن يكون للإنسان مشيئة حرة هي أساس التكليف والابتلاء ومناط الثواب والعقاب وبسببها يكسب الإنسان الخير أو الشر فيُثاب على الخير ويُعاقب على الشر قال تعالى : _ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ_ [سورة البقرة الآية 286] والقضاء والقدر نوعان : نوع لا كسب فيه للإنسان لأنه لا إرادة له فيه ولا يؤاخذ عليه كحركة الأفلاك والأنواء ونزول المطر ونمو النبات واختلاف أحوال الناس من صحة ومرض وقوة وضعف وغنى وفقر وحياة وموت وبما أن من لوازم الحكيم أن تكون أفعاله حكيمة والقضاء والقدر من أفعاله فالقضاء والقدر الذي لا كسب للإنسان فيه متعلق بالحكمة والحكمة متعلقة بالخير المحض قال تعالى مشيراً إلى هذا النوع من القضاء والقدر : _ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ (26)_ [سورة آل عمران الآية 26] والنوع الثاني من القضاء والقدر متصل بأفعال العباد فالإنسان مُنح إرادة حرة هي أساس التكليف والابتلاء وقد منحه الله أيضاً مقومات التكليف والابتلاء فسخر له ما في السماوات والأرض تسخير تعريف وتكريم ليؤمن به ويشكره ومنحه العقل قوةً إداركية يتعرف به إلى الله خلال الكون المسخر قال تعالى : _ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) _ [سورة الرحمن] لقد منح الإنسان إرادة حرة لتكون أساس التكليف والابتلاء وليكون النجاح بها ثمن العطاء ومادام الإنسان قد مُنح هذه الإرادة الحرة ليكسب بها أعماله الاختيارية وليكون مسؤولاً في حدود ما منحه الله إمكانات فلن تُسلب منه هذه الإرادة الحرة لأنه يستحيل أن تتناقض إرادات الله ومتى توجهت إرادة الإنسان إلى فعل شيء في الدائرة التي هي مناط اختياره تعلقت إرادة الله فأمدته بالقدرة على تحقيقها وسيَّرت الفعل الاختياري الكسبي للإنسان إلى الجهة التي تستحق الخير أو الشر وهكذا تُوظَّف مشيئة الإنسان الحرة الخيِّرة أو الشريرة للخير المطلق. قال تعالى: _ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)_ [سورة الأنعام الآية 129] وهنا محل الإشارة إلى مقولة : إن الله خالق لفعل الإنسان فهذا لا يعني أنه أجبره عليه ولا يعني أيضاً أنه رضيه منه ومقولة : إن الله علم ما كان وما سيكون لا يعني أن علم الله هو إلغاء لاختيار الإنسان إنه علم كشف وليس جبراً فالجبر يتناقض مع التكليف. (ويضيف بعض العلماء على مقومات التكليف القدرة الظاهرة على تنفيذ مشيئة الإنسان وهي في حقيقتها قدرة الله التي تتحقق بها مشيئة الإنسان) والابتلاء والمسؤولية والجزاء والثواب والعقاب.. لقول الله عز وجل : _ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)_ [سورة الأنعام الآية 148-149] وهذه آية محكمة هي أصل في نفي الجبرية وتُحمل الآيات المتشابهة كما هو رأي علماء الأصول على الآيات المحكمة. وهناك من يعتذر بالقضاء والقدر ليتنصل من المسؤولية وهذا عذرٌ واه وحجة باطلة. فتجاهل الإرادة الحرة التي منحها الله للإنسان وكذلك الفكر الذي يميز به الخير من الشر والشرع الذي فيه تبيان لكل شيء فإن هذا التجاهل لا يُعفي صاحبه من المسؤولية. (( أتي برجل سارق إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر : ما حملك على السرقة ؟ فقال : قضاء الله وقدره يا أمير المؤمنين فأمر عمر بقطع يده ثم حسمت ثم جلده ثمانين جلدة وقال له : إنما قطعت يدك لسرقتك وإنما جلدتك لكذبك على الله واحتجاجك بالقضاء والقدر فقضاء الله تعالى لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار )) الدعاء والقدر وللدعاء أثر في رد القضاء فقد قال صلى الله عليه وسلم : (( الدعاء يردُّ القضاء )). [رواه الحاكم في صحيحه عن ثوبان] وقال أيضاً : (( لا يردُّ القدر إلا الدعاء )) [رواه الترمذي والحاكم عن سلمان بسند صحيح] (( فالدعاء من أنفع الأدوية وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل وهو سلاح المؤمن )) [انظر الطب النبوي لابن قيم الجوزية] وقد أشار العلامة البيجوري في حاشيته على جوهرة التوحيد عند قول الناظم : وعندنا أن الدعاء ينفع كما من القرآن وعداً يُسمع لقد أشار إلى أن الدعاء ينفع في القضاء المبرم فيكون اللطف وفي القضاء المعلق فيكون الدفع. لذلك لا يُجدي الذكاء والحيطة والحذر في ردِّ القضاء ولكن الدعاء المخلص عقب التوبة الصادقة ينفع في ردِّ القضاء أو اللطف به.. قال صلى الله عليه وسلم : (( لا يُغني حذر من قدر والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل )) [رواه الحاكم في صحيحه عن عائشة] والإيمان بالقضاء والقدر لا يتناقض مع الأخذ بالأسباب فلا تتم مصالح العباد في معاشهم إلا بدفع الأقدار بعضها ببعض فكيف بمعادهم فإن الله أمرنا أن ندفع السيئة وهي من قضائه وقدره بالحسنة وهي من قضائه وقدره فقد روى الإمام البخاري عن عمر بن الخطاب وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم أن بها موتاً عظيماً ووباءً ذريعاً فافترق الناس فرقتين فقال بعضهم : لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة وقالت طائفة أخرى : بل ندخل ونتوكل ولا نهرب من قدر الله ولا نفر من الموت فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه فقال : نرجع ولا ندخل على الوباء فقال له المخالفون لرأيه : أنفرُّ من قدر الله ؟ فقال عمر : نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ! أرأيتم لو كان لأحدكم غنم فهبط وادياً له شعبتان إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة أليس إن رعى المخصبة رعاها بقدر الله تعالى وإن رعى المجدبة رعاها بقدر الله ؟ . ثمرات الإيمان ومن ثمرات الإيمان الصحيح المتوازن بالقضاء والقدر الاستقامةُ على أمر الله والعمل بما يرضيه لأنه (( إليه يُرجعُ الأمرُ كُلُهُ )) [سورة هود الآية 123] _ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَة فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)_ [سورة فاطر] ومن ثمرات الإيمان الصحيح : الشجاعة والإقدام فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفون جبناً ولا إحجاماً ففي آذانهم دويُّ التوجيه الإلهي قوله تعالى : _ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)_ [سورة التوبة] ومن ثمرات الإيمان الصحيح : التحلي بالصبر الجميل والرضا والتسليم فعندما تنزل المصائب يذكر المؤمن عند الصدمة الأولى قوله تعالى : _ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)_ [سورة البقرة] وهكذا نجد أن الإيمان بالقضاء والقدر ركن خطير من أركان الإيمان وهو من العقائد الأساسية التي يجب أن تُعلم بالضرورة.