مفاهيم دينية ودنيوية الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره الشيخ: تيسير التميمي الركن السادس من أركان الإيمان بهذا الدين الحنيف هو الإيمان بالقضاء والقدر ولا يصح الإيمان إلاَّ بالاعتقاد الجازم به فمن أنكر هذا الركن فإنه يكفر ويخرج من الدين والإيمان بالقدر يعني الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة سبحانه والأصل أن يؤمن المرء بقضاء الله وقدره وأن يمسك لسانه عن الخوض في دقائق القدر لعدم جدوى الخوض فيها والأجدى من ذلك التوجه إلى أداء الأفعال الإيجابية المرضية لله تعالى وترك ما لا يرضيه. والإيمان بالقدر ثابت بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ففي القرآن الكريم قال تعالى {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَج فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُوراً} الأحزاب 38 وقال أيضاً {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِين * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَار مَّكِين * إِلَى قَدَر مَّعْلُوم * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} المرسلات 20-23 وفي السنة النبوية الشريفة قال صلى الله عليه وسلم [المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان] رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً [لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم ولو أنفقتَ مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مِتَّ على غير هذا لدخلتَ النار] رواه أبو داود. ويمكن تعريف القدر بأنه ما قدره الله تعالى للمخلوقات قبل خلقها بناء على علمه وإرادته ومشيئته ثم كتابته سبحانه كل ما قدره لها في اللوح المحفوظ لعلمه سبحانه بأنها ستقع في أوقات معلومة عنده وعلى صفات مخصوصة ثم قضى بجريانها في الواقع حسب ما قدرها بناء على ربط الأسباب بالمسببات قال تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَة فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} الحديد 22. والإيمان بالقدر هو ثمرة إيمان العبد بوجود الله سبحانه وتعالى وبأنه يتصف في أسمائه وصفاته وأفعاله بالجلال والكمال الذي لا يعتريه أي نقص بتاتاً: * الإيمان بعلم الله عز وجل العلم الأزلي القديم المحيط بكل شيء وبأنه لا يَعْزُبُ عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض (أي لا يخفى عليه) قال تعالى {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ} آل عمران 29. * الإيمان بأنه سبحانه وتعالى سميع يحيط سمعه بكل شيء من المسموعات وبصير يحيط بصره بكل شيء من المرئيات قال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الإسراء1 وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها [الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادِلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية من البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا.. المجادلة 1}] رواه البخاري. * الإيمان بقدرة الله ومشيئته وأنه عز وجل يفعل ما يختار وما يريد وبأن كل ما يجري في هذا الكون فهو يجري بمشيئته سبحانه وتعالى فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لأنه لا يخرج عن إرادته شيء قال تعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} التكوير 29. ولكن الإيمان بالقضاء والقدر على هذا النحو لا يعني تعطيل إرادة الإنسان واختياره فلا يجوز لأحد أن يتذرّع بقدر الله ومشيئته لتبرير اختياره الكفر على الإيمان أو ارتكابه المعاصي وتركه الفرائض والطاعات قال تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ) الأنعام 14 فهل اطَّلع الذين أشركوا على علم الله أو قرأوا ما في اللوح المحفوظ فعلموا أنهم مقدّر لهم ومكتوب عليهم أن يشركوا فأشركوا؟ إنَّ قَدَرَ الله غيبٌ لا يعلمه إلا الله سبحانه فلا يصح لأحد أن يقول بعد ذلك: كتب الله عليَّ أن أشرك فأنا أنفّذ قدر الله. فالقدر ثلاثة أنواع: نوع لا قدرة للإنسان على رده ويدخل في ذلك نواميس الكون وقوانينه وما يجري على العبد من مصائب وابتلاءات وما يتعلق بالرزق والأجل والصورة التي عليها والنسب الذي ينتمي إليه والبيئة التي يعيش فيها والزمن الذي وجد فيه قال تعالى {وَلِكُلِّ أُمَّة أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} الأعراف 34 وهذا النوع من الأقدار لا حساب عليه لأنه خارج عن إرادة العبد وقدرته في دفعه عن نفسه. والنوع الثاني من القدر لا قدرة للإنسان على إلغائه ولكن يمكنه تخفيف حدته وتوجيهه مثل الغريزة والصحبة والبيئة والوراثة وهذا النوع لا يكون الحساب فيه وإنما على كيفية التصرف فيها وتوجيهها: * فالغريزة مثلاً لا يمكن للمرء كبتها أو إلغاؤها من كيانه ولم يؤمر بذلك وإنما أمر بتوجيهها إلى الحلال الذي أذن الشرع به وحث عليه وكتب عليه الأجر قال صلى الله عليه وسلم [... وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً] رواه مسلم. * والبيئة التي يولد فيها الإنسان وينشأ ويعيش لا يمكنه اعتزالها بسهولة ولم يؤمر بذلك وإنما أمر بتغييرها والانتقال منها إلى بيئة أكرم وأطهر عند الضرورة قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} النساء 97 ولذا شرعت الهجرة فهاجر كثير من النبيين والرسل إلى أماكن أخرى فراراً بدينهم أو ليقيموا دين الله وشرعه. والنوع الثالث من أنواع القدر فللعبد القدرة على دفعه ورده فهي أقدار متصلة بأعماله الاختيارية التي يترتب عليها الثواب والعقاب لأن العبد هنا يستطيع ويدخل في قدرته أن يفعلها أو يتركها وسيجد نفسه مخيراً فيها ابتداءً وانتهاءً كالصوم والصلاة والبر بالوالدين والجهاد وعصيان أوامر الله وفعل المنكرات وترك الفرائض والعدوان على الحقوق ويدخل في ذلك رد الأقدار بالأقدار فالمرض مثلاً قدر لكن يمكننا أن ندفعه عن أنفسنا بقدر التداوي فقد سئل صلى الله عليه وسلم [يا رسول الله: أرأيت رُقىً نسترقي بها ودواءً نتداوى به وتُقىً نتَّقِيَها هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال هي من قدر الله] رواه الترمذي ونستحضر هنا موقف عمر بن الخطاب مع أبي عبيدة رضي الله عنهما في قصة طاعون عمواس في فلسطين فكان رأي عمر الخروج من الأرض التي فيها الطاعون بينما كان رأي أبي عبيدة البقاء فيها استسلاماً لقضاء الله وقدره فقال لعمر: أتفر من قدر الله؟ فأجابه عمر: أفرُّ من قدر الله إلى قدر الله. فالإنسان مخير في هذا النوع من القدر لأن الله سبحانه أعطاه عقلاً وإرادة يعرف بها الخير من الشر ويختار ما يناسبه وبذلك يستحق الثواب على طاعة الله والعقاب على معصيته.