تحديد بدايات الأشهر القمرية بين الرؤية العينية والحسابات الفلكية تعيش الأمة العربية والإسلامية في مثل هذه الأيام من كل عام نوعا من الإرتباك والحيرة يصل حد الإختلاف حول تحديد غرة شهر رمضان وشوال إذ يبلغ الأمر في بعض الأحيان إلى أن يصل الفارق بين بداية نفس الشهر القمري إلى أربعة أيام كما حدث في أعوام مضت هذا الارتباك لا نجده في التقويم الميلادي حيث نجد بدايات الأشهر مضبوطة ومحددة بدقة ضمن رزنامات سنوية وقرنية يضبط الناس وفقها مواعيدهم وأعمالهم وتنتظم بذلك حياتهم. أما عندنا فالمهزلة تكون للأسف عندما نعجز عن ضبط موعد مع شخص آخر إعتمادا على التقويم القمري خاصة في الأشهر التي تحتاج إلى تأكيد بداية الشهر بالرؤية العينية. مساهمة: جمال فهيس* ولكم أن تتصوروا كيف يمكن لشخصين أن يتفقا على موعد لقاء في يوم الخامس من رمضان مثلا في مكان محدد وكل منهما بدأ شهر رمضان في بلاده في يوم مختلف ؟! والسؤال المطروح بإلحاح هو: هل العيب في التقويم القمري أم في مستعمليه؟ التقاويم وسائل لتوحيد وتنظيم حياة الأمم.. عرف الناس التقويم القمري منذ القدم لتعلقه بحركة القمر وسمي عند المسلمين بالتقويم الهجري وشرع في تطبيق هذا التقويم الهجري (القمري) منذ 14 قرنا في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يبتدئ بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أننا نجد أن أمتنا الإسلامية لم تتوحد بعد في إستعماله وكأن لكل دولة قمر خاص بها ترصده لوحدها في السماء!! . من جهة ثانية نجد أن دول الغرب تمكنت من توحيد التقويم المعتمد لديها والمعروف بالتقويم الجريجوري (الشمسي) حيث تحدد فيه بدايات الأشهر وأيامها بدقة لسنوات بل قرون مسبقة. والأدهى من ذلك أنه في الوقت الذي أصبح العالم يشبه بالقرية الصغيرة للثورة التكنولوجية التي أصبحت تعمه في مجالات الإتصال والفضاء والصناعة و الأنترنيت وفي الوقت الذي تتوحد فيه أوروبا إقتصاديا وسياسيا ويخطط فيه غيرنا ويوحد جهوده وإمكاناته لغزو الكواكب البعيدة والفضاء لانستطيع- أولانريد- نحن أن نتوحد في مناسبة دينيةأو تقويم رغم أنه أنجزت عدة دراسات وتقاويم من طرف علماءعبر العالم كمقترحات لتوحيد التقاويم والأعياد. غياب تقاويم مضبوطة يسبب مشاكل وفتن إن عدم ضبط التقاويم والرزنامات السنوية تترتب عنه سلبيات كثيرة على الحياة الإجتماعية والإقتصادية وحتى الدينية فمثلا في الجانب الإقتصادي يكفي أن نرى ما يحدث بيوم أو يومين وأحيانا ثلاثة قبل ما يعرف بليلة الشك وبالأحرى ليلة التحري حيث نرى العمال يهجرون أماكن عملهم خاصة إذا كانت بعيدة ويقومون بما يعرف بالجسر وهذا لقضاء عطلة العيد مع أهلهم وذويهم لأنهم لا يدرون متى سيكون العيد هل غدا أم بعد غد؟. المهم أن الجواب سيأتينا بعد ساعات في الليل عبر شاشة التلفاز في العالم العربي بعد صياغة التقارير وقراءة الديباجة المعروفة التي في بعض الأحيان تكون بعيدة عن الواقع العلمي الذي يعتمد الحساب الفلكي. ويحضرني هنا ما وقع في عيد الفطر لعام 1420هجرية/ 2000م حيث وصل الإختلاف بين الدول الإسلامية في الإحتفال بهذا العيد الذي يوافق بداية شوال إلى أربعة أيام كاملة!!! فهل هذا التباين يعود إلى إختلاف المطالع الذي يقول به البعض ويتحجج به ؟؟. إن ما حدث وسيحدث هو نتيجة إعتماد بعض الدول للرؤية العينية البحتة مثل المغرب حتى لوكانت خاطئة أحيانا كأن يأتي أحد الشهود ويزعم أنه رأى الهلال فيؤخذ بقوله - عن حسن نية- دون التحقق من ذلك في حين أن الإقتران لم يحدث بعد وهناك دول أخرى تعتمد الحساب فقط مثل تركيا وليبيا... وأخرى تعتمد الحساب المدعم بالرؤية العينية. ولو أن بعض العلماء يقولون أن الرؤية العينية ظنية أي يمكن أن تصاب بالخطأ في حين أن الحساب قطعي ودقيق إذ أنه بلغ دقة كبيرة في حساب مواعيد الكسوفات والخسوفات فكيف نعتمده ونصدقه في هذه الحسابات ثم ننكره في تحديد بدايات الأشهر؟! كيف نعتمده قي تحديد مواقيت الصلاة ثم نضعه جانبا في ليلة الشك ؟! إن بداية الأشهر القمرية ظاهرة فلكية بحتة وليست دينية وهي تقدر بمدة دوران القمر حول الأرض خلال 29 يوما و12 سا و44 د. وبالتالي فمدة الشهر القمري إما 29 أو 30 يوما. وهذه الحركة مضبوطة لقوله تعالى {الشمس والقمر بحسبان} الرحمن/3 وفي آية أخرى {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} يونس/5 كما أن الشهر القمري تتحدد به بعض العبادات عند المسلمين من صوم وحج وزكاة والعدة ومناسبات كالمولد النبوي الشريف ومحرم فضلا أن علم الفلك تتحدد به مواقيت الصلاة واتجاه القبلة... لهذا فإن الأخذ بالحساب الفلكي سيحل دون شك إشكالية الرؤية الخاطئة ولنا في التاريخ الإسلامي عدة مواقف توضح إمكانية الخطأ في الرؤية ومنها تلك الحادثة التي وقعت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث رأى أحد الصحابة الهلال الجديد فنظر سيدنا عمر إلى وجهه ونزع عن عينيه شعرة كانت عالقة بها وطلب منه إعادة النظر إلى الهلال فنفى الصحابي رؤية الهلال في المرة الثانية! . وفي عصرنا الحالي حيث كثر التلوث الجوي من دخان المصانع والسيارات فيمكن أن يتهيأ لراصد رؤية الهلال في حين أنه طائرة أو قمر إصطناعي أو سحابة رفيعة أو أحيانا هلال أحد الكواكب القريبة من الشمس كالزهرة والتي تأخذ أحيانا شكل الهلال. ضف إلى هذا أن العامل النفسي له تأثير كبير في رؤية الهلال وهو ما توصل إليه العالمين شيفر و دوجت سنة 1992 بعد أرصاد طويلة وبينا أن هذا الإحتمال ممكن وسمياه ب الخطأ الموجب وتصل نسبته إلى 15 بالمائة أي أن من بين 13 راصدا هناك إثنان سيصرحان برؤية هلال غير مرئي لذا توجب الفحص الدقيق والعلمي لصحة الشهادة. متى يمكننا رؤية الهلال؟ إهتم الفلكيون منذ القدم بدراسة الشروط اللازمة والكافية لرؤية الهلال الجديد لضبط بدايات الأشهر القمرية. ولضيق المجال فإننا لن نخوض في التفاصيل العلمية والفقهية خاصة وأنه عقدت عدة مؤتمرات وملتقيات عالمية في العالم العربي والإسلامي والعالم لضبط وتوحيد كيفيات تحديد أوائل الأشهر كان آخرها باسطنبول (تركيا) في ماي 2016. وتم إقتراح رزنامات موحدة إلا أن تطبيقها يبقى حبيس الأدراج رغم أنها موضوعية. فمنها من إقترح تقسيم العالم إلى ثلاث مناطق رصد ومنها من إقترح إعتماد خط مكة - المدينةالمنورة كخط مرجعي لبداية التقويم القمري ليكون خاصا بالمسلمين بدلا من خط غرينيتش... وهناك تقويم آخر يعرف بإسم أم القرى بالسعودية إلا أنه يمكننا تلخيص مجموعة شروط متفق عليها لإمكانية رؤية الهلال نلخصها فيما يلي: شرط منطقي: أن يكون الإقتران الفلكي بين الشمس والقمر قد حدث فعلا ويمكن أن يتم ذلك ليلا أو نهارا ويكفي أن يمر على الإقتران حوالي 15ساعة حتى يتشكل قوس الهلال بشكل كافي. لذلك فلا جدوى من البحث عن هلال جديد قبل حدوث الإقتران لأنه كمن يبحث عن الشمس في الليل!! شرط هندسي: أن يغرب القمر بعد غروب الشمس بفترة كافية بحيث يقل معها سطوع السماء في منطقة الغروب ويصبح من الممكن تمييز الهلال ويطلق عليه زمن المكث . وأصغر فاصل زمني تم تسجيله بين غروب الشمس والقمر بالعين المجردة هو 22 دقيقة . شرط فيزيائي: أن لا تحول ظروف المكان من تضاريس وتلوث جوي وأحوال جوية دون رؤية الهلال. ويتحقق هذا الشرط حسب الفلكيين بأن لا يقل البعد الزاوي بين الشمس والقمر عن السبع درجات قوسية وهو ما يسمح بتمييزنور الهلال خارج هالة نور الشمس. ضف إلى ذلك ألا تقل زاوية إرتفاع القمر عن الأفق الغربي لحظة غروب الشمس عن الخمس الى ست درجات. إن تحقق هذه الشروط مجتمعة سيسمح بالرؤية العينية للهلال في أي مكان من سطح الأرض . المشروع الإسلامي لرصد الهلال (ICOP) من أجل توحيد كلمة المسلمين فقد تم إنشاء المشروع الإسلامي لرصد الهلال (ICOP) تحت إشراف الإتحاد العربي لعلوم الفلك والفضاء وهي فكرة طيبة تعتمد على جمع المعطيات ونتائج رصد الهلال طيلة السنة ليلتي التاسع والعشرين والثلاثين من كل شهر قمري وذلك في كافة الدول الإسلامية ومن ثم تحلل المعطيات والنتائج بغية التوصل إلى معيار رؤية يشتمل الشروط الفلكية للرصد. هلالا رمضان وشوال 1439 هجرية بخصوص هلال رمضان لهذا العام 1439 هجرية نجد أن حدوث الإقتران الفلكي يكون هذا الثلاثاء 29 شعبان 1439ه/ 15ماي 2018 على الساعة 11و48 دقيقة (11:48) بالتوقيت العالمي (الجزائر:+1سا) حيث تغرب الشمس في مدينتي المدية و الجزائر العاصمة على الساعة 19 و50 د (19:50) بالتوقيت المحلي أما القمر فيغرب بعدها ب3 دقائق على الساعة 19و53د (19:53) حيث يكون زمن المكث ثلاث دقائق (3د) . أما عمر القمر فيكون حوالي 6ساعات ونصف. ومما سبق توضيحه فإن الرؤية تكون غير ممكنة تماما هذا المساء نظرا لقصر مدة المكث ويكون الهلال على إرتفاع نصف درجة قوسية عن الأفق ويبعد عن الشمس بزاوية قدرها 6 درجات قوسية تقريبا . وبالتالي فإن اليوم الموالي هو ال30 ويكون تتمة لشهر شعبان علما أن عمر القمر يكون أكثر من 30 ساعة ويرى بوضوح ليلة الأربعاء في جل دول العالم. أما فيما يخص شهر شوال 1439ه فيحدث الإقتران يوم الأربعاء 13جوان ( الموافق ل 28 رمضان) على الساعة 19 و43 د(19:43) بالتوقيت العالمي (الجزائر:+1سا) ستغرب الشمس يومها في المدية والعاصمة على الساعة 20 و9 د (20:09) بالتوقيت المحلي في حين يكون القمر قد غرب قبلها ب20 دقيقة أي على الساعة 19 و49 د(19:49) مما يجعل الرؤية مستحيلة فلكيا في هذا اليوم ولكنها تكون ممكنة جدا في ليلة الخميس (29رمضان ). و بالتالي فإن أول يوم من شوال الموافق لعيد الفطر المبارك سيكون بحول الله يوم الجمعة 15 جوان ( شكل 02) . نعم لنشر الثقافة الفلكية ختاما فإننا نأمل من خلال هذا الإسهام المتواضع في تبسيط إحدى الظواهر الفلكية المتعلقة برؤية الأهلة في بدايات الأشهر القمرية وأن نكون قد أسهمنا في رفع الإلتباس وسعيا منا في التوعية ونشر الثقافة الفلكية والعلمية بين الجمهور ونحن نعيش الألفية الثالثة. كما أن تخصيص حصص وبرامج علمية فلكية مبسطة في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية سيسهم بالتأكيد في ترقية المستوى الثقافي والعلمي للمواطن خاصة وأن كثير من العلماء أكدوا أن اعتماد الحساب الفلكي في عصرنا لا يتنافى والشرع بتاتا بل يؤكد ويدعم الرؤية العينية خاصة وأن بعض آلات التصوير الحساسة تستطيع تصوير الهلال الجديد بضع ساعات فقط بعد ميلاده فضلا على أن اعتماد الحساب الفلكي سيوحد الرزنامات في خطوة هامة لتوحيد الأمة عربية والإسلامية. وتقبل الله صيام الجميع وكل عام وأنتم بخير. * رئيس الجمعية العلمية الفلكية البوزجاني وعضو الإتحاد العربي لعلوم الفلك والفضاء