فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ في مدينة الأبيض سيدي الشيخ بقلم: الطيب بن إبراهيم -الجزء السادس- *دوافع اختيار مدينة الأبيض سيدي الشيخ لاحتضان الإرسالية لقد عرفت مدينة الأبيض سيدي الشيخ استقطابا صوفيا بين الجزائريين حيث نما وازدهر نفوذها الصوفي وأصبحت محور نفوذ حركة صوفية بلغت ذروتها بين مريدي الطريقة الشيخية من كافة أنحاء الجزائر وبلدان المغرب العربي خلال القرون الماضية عقب وفاة مؤسس الطريقة الشيخية سنة 1616. كما أن مدينة الأبيض كانت ولا زالت تشتهر بتظاهرة صوفية سنوية وطنية يحتفل فيها بزيارة ضريح سيدي الشيخ وتسمى التظاهرة بركب سيدي الشيخ إذ صُنِّف هذا الرَّكْبُ من طرف المنظمة الدولية للثقافة اليونسكو ضمن التراث العالمي غير المادي منذ شهر ديسمبر سنة 2013م . *الدوافع الصوفية بهذا التميز الصوفي الذي تميزت به مدينة الأبيض سيدي الشيخ قال عنها الماريشال الفرنسي ليوتي بعد أن زارها سنة 1905 ورأى بأم عينه مكانة المدينة ونفوذها الصوفي على الجزائريين وقبائل الجنوب والغرب خاصة قال أنها تمثل مكة الصغيرة بالنسبة للجزائريين وهذه المكانة والنفوذ هو ما ميزها عن بقية المدن المجاورة لها الأقدم منها تاريخيا والأكبر منها حجما وسكانا فهي مدينة التصوف والأضرحة والزاوايا والزوار فكانت المدينة صوفية النشأة والنفوذ والمكانة. يقول الأب روني فوايوم المسئول الأول عن البحث واختيار المكان المناسب لتأسيس إرساليته أن من بين عوامل اختياره لمدينة الأبيض سيد الشيخ أنها المدينة التي يوجد بها مقر ومركز الطريقة الشيخية. لقد عرفت مدينة الأبيض سيد الشيخ حتى قبل تأسيسها مرور شخصيات صوفية تاريخية كبيرة مرّت بالمكان أبرزها جد سيد الشيخ سيدي سليمان بن بوسماحة الذي كان من كبار علماء عصره واحد علماء جامعة القرووين وسيدي بودخيل المتوفى سنة 1565 هذا قبل أن يؤسس سيدي الشيخ (1533 - 1616م ) زاويته بالأبيض حوالي سنة 1580م وليصبح أشهر متصوفي المنطقة في عصره وبعد استشهاده في المقاومة ضد الاسبان سنة 1616 خلفه ابنه الصوفي سيدي الحاج بحوص صاحب الثلاثين حَجَّة والذي التقى معه العياشي في رحلتَيْه الأولى سنة 1649م والثانية سنة 1655م وتكلم على تصوفه وجهاده وخلفه أخوه الصوفي سيدي الحاج عبد الحاكم وابنه السيد أبو حفص الحاج والحفيد الصوفي سيدي بن الدين قبل أن يحط الرحال بزاوية الأبيض مؤسس الطريقة التجانية الصوفي أبو العباس احمد التجاني بعد تخرجه من جامع القرويين بفاس سنة 1762م وبقي بالمدينة حوالي ست سنوات من 1762م إلى 1767م وكان آخر متصوفة مروا بالمدينة الصوفي المجاهد الشيخ بوعمامة . أثناء الاحتلال ولمكانة المدينة الصوفية تسابق دارسو التصوف الإسلامي من مستشرقي فرنسا على زيارة مدينة الأبيض وزاويتها فأقام بها المستشرق أنطوان جياكوبيتي سنتين دارسا للياقوتة القصيدة الصوفية لسيدي الشيخ سنتي 1898 -1899 وأقام بها المستشرق لويس غاردي حوالي خمس عشرة سنة (1933 - 1947 ) وهذا ضمن إرسالية الأب روني فوايوم سنة 1933م كما زارها المستشرق بيار غرو سنة 1935 والمستشرق إيميل جانيي كذلك سنة 1935 وزارها المستشرق المصري جورج شحاتة قنواتي سنة 1942 وقال عنها أنها من أحسن الأماكن في العالم لدراسة التصوف الإسلامي وزار مدينة الأبيض أيضا المستشرق الفرنسي العالمي القس لويس ماسينيون رفقة زوجته سنة 1955م. *الدوافع الجهادية لمقاومة الاحتلال الفرنسي منذ البداية اصطدمت فرنسا الاستعمارية بردود فعل الشعب الجزائري بزعامة الزوايا المجاهدة صاحبة النفوذ الديني والولاء الاجتماعي والقبلي وكانت مدينة الأبيض سيدي الشيخ شوكة في حلق الاستعمار قبل توطيد سيطرته على الجزائر.منذ الوهلة الأولى وقفت زاوية الأبيض سيدي الشيخ بقوة مع الأمير عبد القادر ودعمته بالمال والرجال مما جعل الأمير شخصيا يعترف بموقفها وبزعمائها الذين منحهم امتيازات لم تمنح لغيرهم وعاملهم معاملة خاصة من الإكرام تليق بمقامهم كما كان حالهم قبله مع الأتراك وعبَّر الأمير عبد القادر على هذا الموقف التاريخي قائلا : أما أولاد سيدي الشيخ فقد اعترفوا جميعا بسلطتي .حقا لقد منحتهم بعض الامتيازات وسمحت إليهم بدفع ضرائب منخفضة ولكنهم كانوا قبيلة من المرابطين ومن واجبي أن أعاملهم بدرجة خاصة من الإكرام . وبعد أن توقفت مقاومة الأمير عبد القادر تزعمت زاوية الأبيض سيدي الشيخ قيادة المقاومة الوطنية الجزائرية وأمدتها بقادة شباب أعجب بهم العدو قبل الصديق حققوا عدة انتصارات على العدو في عدة معارك وكبدوه خسائر جسيمة قادوا المقاومة الوطنية قائد بعد قائد وشهيد بعد شهيد أبرزهم السي سليمان بن حمزة الذي استشهد سنة 1864 وخلفه أخوه محمد الذي استشهد سنة 1865 ثم خلفه أخوه احمد الذي استشهد سنة 1868 ثم خلفه أخوه قدور وعمه السي لعلى بالإضافة لأبناء عمومتهم الشيخ بن الطيب وابن أخيه سليمان بن قدور وآخرهم الشيخ بوعمامة وهو عدد من قادة المقاومة الوطنية الجزائرية لم تقدمه أي زاوية أخرى إنها الزاوية الجهادية التي كان زعيمها ومؤسسها الصوفي الشهيد سيد الشيخ نفسه شهيد الجهاد ضد الاسبان سنة 1616. كان من ابرز القادة العسكريين للزاوية الشيخية السي لعلى الذي قال عنه الحاكم العام للجزائر الجنرال كامبو : ...السي لعلى هذا كان يمثل من بين جميع خصومنا في الماضي الأكثر مهارة الأكثر شجاعة والأفضل رجل حرب .وعندما زار الماريشال الفرنسي ليوتي مدينة الأبيض سيد الشيخ في جوان سنة 1905م أي بعد وفاة السي لعلى بعشر سنوات أرسل من الأبيض رسالة لعائلته بفرنسا يوم الأربعاء 14 جوان 1905م وعندما عرَّف لهم المدينة قال : إنها مدينة السي لعلى احد صانعي ثورة سنة 1864م كما قال الماريشال في رسالة أخرى له من الأبيض سيدي الشيخ سلمها لمجلة الابدومادار : وأنا هنا عند اكبر سادة في الجزائر وربما في كل إفريقيا. . وأكيد أن من اختار الأبيض سيد الشيخ مكانا لإرساليته القس روني فوايوم كان مطلعا على ما قيل عن مدينة الأبيض في كتاب مترجم الجيش الفرنسي - فرانسوا غورجو Francois Gourgeot - الوضعية السياسية في الجزائر سنة 1881 حيث يقول صاحب الكتاب : للضرورات السياسية أقمنا مركزنا العسكري بالأبيض سيدي الشيخ انه عاصمة مهمة في كل الجزائر لعلاقته مع التل ومع واحات الداخل الإفريقي انه مركز تجمع من كل الاتجاهات المعادية للاحتلال . ولأهمية هذه العاصمة الصوفية والجهادية تردّد على زيارتها عدة جنرالات فرنسيين أولهم الجنرال دوما سنة 1845م ثم توالت الزيارات فيما بعد من طرف الجنرال رونو والعقيد تروملي والجنرال دوريو والجنرال توماسان والجنرال ديتري والماريشال ليوتي والحاكم العام جيل كامبو والقائمة طويلة... يتبع..