مدينة الأبيض سيد الشيخ كانت مسرحاً لها.. بقلم: الطيب بن ابراهيم لم تكن الجزائر بالنسبة لفرنسا حقل تجارب نووية فحسب كما حدث في منطقة رقان بل حقل تجارب متعدد الميادين والنشاطات ورغم مرور أكثر من نصف قرن على استقلال الجزائر لا زالت هناك تجارب فرنسية أخرى في طي الكتمان حقائق تعكس جرائم فرنسا ليس العسكرية فقط التي يعرفها الخاص والعام ولكن جرائم أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية لم تصلها بعد أيدي الكتاب والباحثين والمؤرخين الجزائريين ولا زالت فرنسا تتهرب من فتح أبواب الأرشيف المغلقة أمام الجزائريين . ومن بين تلك الجرائم في حق الجزائريين جرائم فرنسا الدينية التي ارتكبتها ضد الشعب الجزائري ومحاربتها للإسلام ولرموزه من لغة وعلماء ومساجد وزوايا وأملاك الوقف ومحاولاتها بكل أساليب ووسائل الترغيب والترهيب تنصير الشعب الجزائري كما كان حال مؤسس جيش الآباء البيض حسب تعبير سعد الله الكاردينال لافيجري صاحب شعار الرغيف مقابل الإنجيل . قبل عشر سنوات من الآن وتحديدا في شهر أكتوبر سنة 2008 قدمت محاضرة بالمجلس الإسلامي الأعلى في عهد المرحوم بوعمران الشيخ كان عنوان المحاضرة : لويس ماسينيون ومشروع تلامذة شارل دي فوكو التنصيري بمدينة الأبيض سيدي الشيخ وكانت معلومات المحاضرة مثيرة للانتباه وكان ذلك بحضور المرحومين عبد الرحمن شيبان ومحمد الشريف قاهر رحمهما الله ومن جهة أخرى حضر اثنان من جماعة الآباء البيض بعد اطلاعهم عن الإعلان على المحاضرة في جريد المجاهد الناطقة بالفرنسية وهذا ما علمت به لاحقا. ومنذ ذلك وخلال أكثر من عقد من الزمن استطعت جمع المزيد من المعلومات والاطلاع على كثير من الحقائق والوثائق حول إرسالية إخوة يسوع الصغار بمدينة الأبيض صاحبة أول تجربة تنصيرية في التاريخ في مدينة الأبيض سيدي الشيخ والمدعمة بكتيبة من كبار المستشرقين العالميين الفرنسيين وغير الفرنسيين ولخطورة هذه التجربة الفريدة من نوعها في عالم التنصير ولضرورة أهمية الاطلاع عليها سنعرضها على القراء في حلقات بمزيد من التفصيل والتحليل. تعود أهمية مدينة الأبيض سيد الشيخ إلى زاويتها التي كانت من اكبر الزوايا الجهادية مقاومة للاستعمار منذ عهد مؤسسها سيدي الشيخ شهيد المقاومة ضد الاسبان في وهران إنها المدينة التي أطلق عليها الضابط الفرنسي الماريشال ليوتي Lyautey وصف مكة الصغيرة حيث تم اختيار هذه المدينة لتأسيس أول إرسالية لتلامذة شارل دي فوكو إخوة يسوع الصغار بعد أن وافق البابا بيوس الحادي عشر شخصيا على ذلك المشروع في شهر سبتمبر سنة 1931 ليتم الإعلان رسميا عن تأسيس الإرسالية بكتدرائية مونمارتر بباريس يوم الجمعة 8 سبتمبر سنة 1933 وهو الحادث الذي أشادت به جُلُّ الجرائد الفرنسية خاصة : لوفيغارو ولاكروا والحياة الكاثوليكية وصدى وهران... بعد شهر من الإعلان عن قرار تأسيس الإرسالية وصل القساوسة الخمسة المؤسسون لمدينة الأبيض سيدي الشيخ مع بداية شهر أكتوبر سنة 1933 حيث بدءوا في بناء كنيستهم بشكل هندسي يشبه تماما أضرحة المدينة ووصفوها بأنها اكبر قبَّة وأطلقوا على مقر إرساليتهم وصف زاوية سيدنا عيسى مقابل زاوية سيدي الشيخ وتم ذلك تنفيذا لوصية شيخهم المنصر الكبير والجاسوس الشهير شارل دي فوكو 1858 1916 الذي أوصى بإقامة زوايا بالصحراء تشبه زوايا المسلمين. أطلق تلامذة شارل دي فوكو على أنفسهم وصف إخوان الخلوة وكتبوا على باب مدخل إرساليتهم بخط مغاربي كبير اسم الخلوة بل ذهبوا لأبعد من ذلك وتخلوا عن استعمال الجرس بالكنيسة من اجل الصلاة وبنوا بكنيستهم منارة للأذان تتشابه تماما مع مئذنتي المدينة المعاصرتين لها وأصبحوا ينادون للصلاة بكنيستهم من أعلي منارتهم بنداء يشبه أذان المسلمين. وفي البادية أقاموا لهم خلوات متنقلة في الخيم وأصبحوا يختلون بها للعبادة تشبُّها بخلوات متصوفي المنطقة وأصبحوا يصلّون في الصحراء على الجبهة واليدين وفي أي مكان كما يفعل المسلمون وهذا قبل أن يستقروا في البادية مع البدو الرحل وتصبح لهم قطعان ماشية من غنم وماعز يقومون برعايتها وجمال يسافرون بها مع قوافل البدو الرحل لأقصى الجنوب لجلب التمور وحمير يجلبون عليها الماء. تخلى الارساليون على مظاهرهم الغربية فلبسوا العباءة والبرنوس والشاش وأطلقوا لحاهم ووضع كل واحد منهم سبحة على حزامه ولم يُحَيُّوا السكان إلا باللغة العربية واخذوا لهم أسماء محلية مستعارة وأصبح اسم رئيس إرساليتهم القس روني فوايوم يدعى ب شيخ الخلوة . جُنِّدت لذلك المشروع التنصيري المثير للجدل كل الكفاءات والطاقات العلمية والفكرية والإدارية تحت حماية الجيش الفرنسي وكان على رأس من جند بكل إمكانياته العلمية والثقافية المستشرق العالمي ومستشار وزارة الخارجية الفرنسية لويس ماسينيون الذي كان احد حاملي غطاء القربان يوم تأسيس الإرسالية ومهندس نشاطها والذي زارها لاحقا بمدينة الأبيض سيدي الشيخ رفقة زوجته وكذلك المستشرق لويس غاردي الذي أقام بمدينة الأبيض حوالي خمس عشرة سنة باسم مستعار كما استعانت الإرسالية التنصيرية على سكان المدينة بخدمات المستشرق المصري جورج شحاتة قنواتي فاستضافته سنة 1941 لعدة أشهر حيث تم هناك أول تعاون علمي بينه وبين المستشرق لويس غاردي لدراسة التصوف الإسلامي وكانت بدايتهما دارسة كتاب الكلاباذي التعرف لمذهب أهل التصوف وكتاب الإحياء لأبي حامد الغزالي. كما استعانت إرسالية الأبيض سيدي الشيخ على السكان بعربي آخر استضافته ليقنع سكان المدينة بأن العرب ليسوا مسلمين فقط كما يتصورون بل هناك عرب مسيحيون يعرفون العربية والإسلام أفضل من سكان مدينة الأبيض سيدي الشيخ حسب تعبير رئيس الإرسالية وكان ضيفهم هذه المرة سنة 1953 المرتد اللبناني الشيعي الدكتور عفيف عسيران وهو نفس التعاون الذي تم قبله بالمراسلة مع المرتد المغربي الدكتور محمد جون عبد الجليل. ومع ذلك تصدى للرد على أعمال تلامذة شارل دي فوكو تلامذة ابن باديس وعلماء المدينة وكل السكان فوقفوا لهم بالمرصاد وفضحوا أعمالهم وأساليبهم وردّوا كيدهم على نحورهم خاصة العالمان عبد الكريم محمد ( بن شْكُر) وعدناني محمد وكذلك الشيخ بوبكر حمزة الذي وقف موقفا صلبا بعد انتخابه رئيسا لزاوية سيدي الشيخ سنة 1949. كانت إرسالية الأبيض صاحبة التجربة التنصيرية الفريدة من نوعها مدعمة من الفاتيكان ومدللة من الجميع العسكريين والمدنيين وهي التي كانت ترفع على أعلى منارتها الراية البابوية بمناسبة أعياد الفصح والميلاد وهي التي أصبح رئيسها القس روني فوايوم موظفا ساميا لدى صديقه البابا بول السادس بالفاتيكان ابتداء من شهر مارس سنة 1968 !!. إن ما جرى في مدينة الأبيض سيدي الشيخ ليس استثناء بل هو جزء لا يتجزأ من الحالة التي عرفتها الجزائر في كل مدنها وقراها في عهد الاحتلال ونحن نقدمه هنا كنموذج عن بقية القرى والمدن الجزائرية التي عانت من الاستعمار وتوابعه وتجاربه ونتائجه وكان التنصير على رأس أولوياته رغم علمانية فرنسا فتجند له المدنيون والعسكريون ورجال الدين والعلمانيون وذلك في إطار سياسة فرنسة الجزائر أو الجزائر الفرنسية أو فرنسا فيما وراء البحار تعددت الأسماء والداء واحد. في الحلقات المقبلة سنتحدث إن شاء الله بالتفصيل عن قصة فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ في مدينة الأبيض سيد الشيخ من يوم التأسيس والتهليل سنة 1933 إلى يوم الغلق والرحيل سنة 2017 مع التطرق لأول مرة لحقائق وصور ووثائق لم تنشر من قبل. يتبع