بقلم: جمال نصر الله* يُشاع بأن عميد الأدب العربي طه حسين كان قد أخذ مبدأ الشك من معلمه في التأثير والتأثر الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت...بل الأكثر من ذلك أن صاحبنا نال شهادة الدكتوراه ضمن رسالة كان قد قدمها عن هذا الفيلسوف نفسه. ويتفق كثير من الباحثين والقراء المتابعين بأن هذا المبدأ الذي هو أداة لن تصبح بالضرورة في متناول أيا كان؟! فالشك هو قدرة العقل على الوصول إلى الحقائق بعينها وليس العواطف والغرائز...كذلك ليس فقط مع المسائل التي ينتابها الغموض بل حتى مع المسلمات العادية.والشك له أدواته التي وجب توفرها قبل بدء الرحلة وقد خلُص الحكماء إلى الإيمان بمقولة(الشك يؤدي لليقين) وهو هنا لا يعني تلك الحالة المرضية التي ترافق الكثير من الأشخاص كالوساوس والإفراط في طرح الأسئلة من أجل التطفل بدافع الفراغ الروحي..أي بالمعنى الأصح أن هناك شك مشروع وآخر مميّع ومهدر للوقت فقط؟! ديكارت أقر بهذا المبدأ نتيجة تأملاته الفلسفية...وأعظم شك بلا مواربة هو من يملكه الفلاسفة دون غيرهم نظير ما يملكونه من طاقة فكرية وتخيلية حتى لا نقول طاقة عقلية.وبفضل هذا الشك الذي انتقل بعدواه لطه حسين تمكننا كمواطنين عرب أن نصل إلى كثير من الحقائق في ثقافتنا العربية والتراثية....ناهيك عن أن تاريخية الشك ولدت قبل ديكارت بقرون بل هي متوارثة من اليونانيين الإغريق وصولا إلى مذهب الشك عند الغزالي وابن خلدون وابن رشد وابن طفيل...لكن نوع الشك الديكارتي فتح آفاقا رحبة لدى الفكر العربي حتى وهو منقول من غيرنا لكنك تراه قد أفلح حقا في اختراق الكثير من الموانع وفتح الكثير من الأظرفة التي كانت إلى قرون خلت مغلقة؟! لا لشيء سوى أنه اعتمد التفكيك والتفصيل والفرز والتشخيص ثم التطهير الشفاف ونزع كل شائبة ودخيل عنها. طه حسين حاز على كل الأدوات الديكاترتية.حتى وأن أديبنا له عثراته يوم ذهب به المذهب نحو الغرور والتقوّل بأن قلمه قادر على كتابة نصوص تضاهي رقيا وسجعا وبيانا من كتاب الله القرآن الكريم؟! وهذا ما جعل الجميع يهاجمه من شيوخ الأزهر.لكنه والحمدلله أعدل عن هذا وتراجع بل تاب يوم زار الكعبة وأدى العمرة عام 1955. قلنا بأن أدوات الشك التي تمكن عميد الأدب من التحكم فيها وطرائق استعمالها في عدة مواضيع شائكة....أسقطها مثلا على الشعر الجاهلي....وقال قولته الشهيرة بأن هذا الشعر منحول (كيف توصل يا ترى إلى ذلك وأين حججه التي سوف يقنع بها الناس) ففي إحدى حواراته التلفزيونية يقول طه حسين بأن كل ما وصلنا من شعر جاهلي قبل الإسلام تدخلت فيه أيادي فيما بعد وقدمته لنا كما هو مطبوع الآن في الكتب؟!....أما عن الحجج الدامغة فهي ألفاظ ومصطلحات لم تأت إلا في القرآن الكريم.تم العثور عليها في أشعار المعلقات وما قبلهم؟! فكيف لنا أن نجدها عند شعراء الجاهلية وهي لم تظهر للوجود بعد؟! والدليل الثاني الذي يوجزه هو أن كل شعراء الجاهلية لا يمكن أن نعثر على أية ديانة كانوا يتبعونها ويؤمنون بها....وهذا يعني أن الذي نقّح وعدّل في شعرهم حذف كل ما له صلة بوثنيتهم حتى لا نقول شِركهم.... وأي ديانة كانوا يتعبدون .... ألا يوجد شاعرا واحدا وفي بيت من الأبيات ذكر لنا مثلا حبه وتعلقه لهذا الوثن والصنم أو حلف وأقسم به؟! خاصة وأنهم جميعا شعراء متحمسون وشجعانا تتملكهم الغواية والصعلكة. مثل عنترة العبسي وطرفة بن العبد أوامرىء القيس....(لماذا فقط نجدهم يتحدثون عن حبيباتهم وخمرياتهم ووقوفهم على الأطلال)...إن الذي تدخل في شعرهم وبفعل فاعل أراد وفي صدر الإسلام بالضبط أن يقول لنا بأنهم شعراء كانوا أقرب إلى الإسلام.وكأنه أراد تبرأتهم وتطهيرهم من وثنيتهم ومسائل أخرى تتعارض والإسلام والعروبة.....أما النقطة الأخرى التي ركز عليها طه حسين فهي موضوع الأوزان الشعرية والبحور والقوافي والتي هي 15ومعروف أن الخليل بن أحمد الفراهيدي كان قد ضبطها في العصر العباسي الأول ما عدا بحر المتدارك الذي أنشأه الأخفش...كيف نجد موسبقى هذه البحور هي من استعملها الشنفرى وعمرو بن كلثوم ولبيد بن ربيعة وغيرهم(هل كانوا يفقهون هذه البحور وكتبوا على منوالها وتحت سلطتها) وهي التي جاءت بعدهم بقرون.هنا يشك طه حسين في هذه المسألة وهي فعلا تحتاج إلى وقفة؟! علما أن كل شاعر كان ينحدر من ضيعة ومِصر..فكيف لنا أن نجد بحر البسيط مثلا عند شعراء الحجاز هو نفسه في اليمن والشام وفي نجد وقريش؟! هل إجتمعوا واتفقوا على ذلك وحددوا ضبطية هذا البحر؟! منهج الشك هذا مكننا اليوم من الوصول إلى كثير من الحقائق يوم يتمكن المرىء من طرح عشرات الأسئلة حول عدة مسائل وشبه ألغاز وطبائع ودوافع نفسية وفنون في الأدب والسينما والشعر والمسرح والمجتمع وحتى في الحياة العامة ماضيا وحاضرا وهذا مؤشرا إيجابي حتى نستطيع أن نبني من جديد كل شيء على اسس متينة وصريحة وشفافة. والشك معروف لدى علماء الجريمة يستطيعون من خلاله المحققون الوصول للجناة وكل الطرق والطرائق المؤدية للحقيقة....بدءا من الجزئيات وصولا إلى الكليات....ومرات من الكليات إلى الجزئيات....ويُستعمل الشك حتى في الكيمياء والفيزياء وفي الرياضة والصناعة والإختبار..لأجل إلتماس العلاقات والتفاعلات بل بمفهوم عام فإنه يقضي على الخرافة ويمحوها من التاريخ البشري السيء...بل الأهم من ذلك ينير الطريق نحول البناء المحكم والمركب للأشياء بعيدا عن التزوير والتغطية على الحقائق الصرفة...بل دفنها في غياهب النسيان وقبرها...لذلك فهو يخرجها من جديد للحياة حتى تصبح نبراسا وصومعة شامخة مرفوعة الرأس لكل الأجيال المتعاقبة وكلها ثقة وشجاعة ووقار.