هل نحن أمام ”رأي” أو ”فتوى” علمية بالمعنى الديني تلك التي أهدرت دم الصحفي كمال داود، ترى ما رأيك في الخروج عن المعهود والمقدّس؟ النص الخارج عن ”الموروث” و”المعتاد” أو عن ما ”هو مشترك مقدّس” له صفة القداسة والسّلطة الروحية والمذهبية هي مِيزة القرآن الكريم في نزوله الذي دَعا إلى التبصّر وإعمال العقل وذمّ ذهنية ”اتباع الآباء”، وهو ما استلهمه المُجدّدون في الدّعوة إلى التجديد من خلال مظلّة الأثر المشهور ”على رأس كُلّ قَرن يبعث الله لهذه الأمّة من يُجدّد لها دِينَها”، غير أنه للأسف كلّ مذهب حَصَر أسماء المجدّدين في كلّ قرن في مشايخهم، وهي عملية الغَلْق المذهبي التي تتحوّل إلى الإتباع والتعصب وهذه طبيعة أيّ مذهب ديني أو سياسي أو فكري، حين يُصبح تُراثه سجنَه، أو يتحوّل إلى تبرير سياسي للتسلُّط والهيمنة، أو يُلاقي العَنت والحرمان والاضطهاد، فيدخل مرحلة ”الكمون” السرية ، والاجتهاد الذي شكّل استفزازاً ايجابياً، وتحريك الماء الراكد في تاريخ نهضتنا الإسلامية القريبة قام بها ”الشّيخ”، ولكنه العارف بمَسائل الدين واللغة والشعر والأدب، المتخرّج من كبرى الجامعات الدينية العريقة العالمية، مثل حمدان خوجة، ومحمد عبده، وعلي عبد الرّازق، وابن عاشور، وفي مجال الأدب طه حسين والعقاد، وأغلب هؤلاء من الأدباء والشعراء كان لهم إطلاع بثقافتهم التراثية التي يكتبون بها، حتى الذي هاجم اللغة العربية وارتآى الدارجة، كان عالماً في اللغة مثل لويس عوض، الذي كتب ”مقدّمة في فقه اللغة”، كما ظهرت الكتابات المسيحية والعلمانية في فضاء الثقافة العربية المعاصرة، بعضها سَاهم في إثراء النقاش والجدل، وبعضها الآخر صُودر وحوكم، منهم من انتصر على ”فتاوى الظلام” وهدر الدماء وغلق الاجتهاد، مثل صادق جلال العظم في الستينات، الذي كتب ”نقد الفكر الديني”. وما حدث لمحمد أركون مع محمد الغزالي الذي كفّره، وهو الذي سَعى في طرد الشاعر الفلسطيني عزّ الدين المناصرة من قسنطينة، وصولاً إلى قتل فرج فودة والحُكم بتطليق زوجة نصر حامد أبوزيد، لأنه ارتدّ وألحد، أو اغتيال بعض المثقفين والأدباء في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، فهي مواقف وسلوك لم تنصر الإسلام وتغني الاجتهاد وتغذيه بالمعرفة وبالجدل الايجابي. غير أنه ينبغي أن نذكر هنا أنّ ملتقيات الفكر الإسلامي في الجزائر في السبعينيات التي كانت تنظمها المؤسسة الدينية الرسمية، هي الفضاء الذي كان يحاضر فيه محمد أركون والمستشرقون والعلمانيون، مع الابتعاد عن السبّ واحتقار القيم المشتركة للجزائريين، وتقديم رؤية علمية حتى ولو كانت ضدّ اليقينيات، أما مثلاً المذكرات التي كتبتها ابنة أركون، ففي جزء منها جانب للصواب وفيها نوع من الحقد على الجزائر، أو الذين يتّخذون من أركون ذريعة لتصوير الاضطهاد العقلي في الجزائر، فالغرض هنا واضح أو جهل بالتاريخ وتزييف للحقائق. ولكن هل كانت هناك مصادرة للكتب واضطهاد للحرية الفكرية للكتّاب والأدباء؟ نعم مصادرة الكتب صاحبت الدعوة إلى النهضة والتجديد، فأول مصادرة حسب علمي كانت سنة 1889 لكتاب ”تحرير المرأة” لقاسم أمين، ولكن اليوم بعد أكثر من قرن، ها نحن أمام من يرى أنّ وجه المرأة ليس عورة، غير أن قاسم أمين بعد الانتقاد والجدل المعرفي والديني مع الأزهريين وغيرهم، أعاد إصدار كتابه بعنوان مخالف مع التعديل ومراجعة بعض المواقف وسمّاه ”المرأة الجديدة” عام 1901، وفي عام 1925 تمّت مصادرة كتاب علي عبد الرازق ”الإسلام وأصول الحكم”، وكذا كتاب طه حسين ”في الشعر الجاهلي”، الذي بدّل عنوانه وحذف منه بعد الصّخب الذي أحدثه، أما في مجال الرواية فأذكر هنا رواية ”وليمة لأعشاب البحر”، للسّوري حيدر حيدر، فقد تطاول فيها على الرسول عليه السلام، وتحدّث باسم شخوص الرواية، وقامت مظاهرات طلابية أزهرية ضدّ هذه الرواية، واعتبر مجمع البحوث التابع للأزهر أن ”الرواية كافرة”. طبعاً هنا وصف للرواية وليس للشخص، غير أن بعض النقاد والعارفين يقولون إنّ الرواية لم ترق إلى المستوى الفني، ولكن ”فتاوى التكفير والرّدة والقتل”، هي التي تُشهر هذه الأعمال وتكون وراء مزيد المبيعات والترجمات إلى اللغات العالمية، وربما الجوائز التي تخضع أحياناً لاعتبارات غير فنية وعلمية. وطبعاً في ظلّ فوضى الفتاوى، وظهور ”أشباه الفقهاء” وإعلام يسعى نحو الإثارة وجلب المشاهدة نكون أمام حالة ”شواذ ومهووسين أنهم يمثلون الله”، فيؤدي ذلك إلى فوضى وغياب صوْت العقل والتفكير، وقد يكون ردّ فعلي على ما يشبّهونهم في الطرف الآخر لا يقدّمون معرفة وحداثة ولكن ”شعوذة حداثية”، تخلو من الاجتهاد والتفكير وتجيد السبّ والشتم، وبالنسبة لي إنّ معجم هؤلاء مهما اختلفوا ”الإقصاء، والكراهية وجلد الذات والبحث عن مرجعية أخرى لافتقاد الثقة فيما يمتلكون...” لاحظنا أن المؤسّسات الدينية القويّة كانت أيضاً وراء التكفير والحكم بالردّة، بمعنى أن المشكل بين التكفير والتفكير يبقى قائماً حتى ولو تجاوزنا ”هواة الفتوى” أو ما أسميتهم ”أشباه الفقهاء”؟ نعم، ولكن أن تكون هناك مؤسسة دينية أو لجان قراءة تصدر رأياً أحسن من الهوى الفردي، بغض النظر عن مواقفنا تجاهها، كما أن هؤلاء عليهم أن يدركوا أنّ بعض المفكّرين مع السنوات قدّم رؤية أكثر تفكيراً ربما يعود إلى النقاش والجدل الذي حدث، فتخيّل لو أهدر دم هؤلاء، أو قتلوا، ماذا سنربح؟ وماذا ستقدّم للإسلام، رؤية مذابح داعش ومزيد من ”الإسلاموفوبيا” في العالم؟ أذكر هنا مثلاً كتابات مصطفى محمود، الذي كتب فيما بعد ”من الشّك إلى الإيمان”، وبعض الكُتّاب اليساريين، الذين كانوا خِياراً بين قوسين ”في الجاهلية والإسلام”، وأذكر هنا بعض القوميين الناصريين سابقاً مثل المفكر محمد عمارة وأحمد خلف الله، كما أنّني أذكر هنا حادثة غريبة فالذي شنّ حملة تكفيرية على ”نصر حامد أبوزيد” بسبب كتابه ”الخطاب والتأويل” الذي أثار ضجّة وكتب أخرى هي في الغالب تكرار وترجمات لمدارس ألسنية تأويلية أنجلو سكسونية، ليس فيها تجديد وإبداع، ولكن التكفير والتهمة بالردّة هي التي حوّلته إلى مفكر، الحادثة التي قصدتها هي أنّ عبد الصبور شاهين عدو نصر حامد، نشر كتاب ”أبي آدم”، يثبت فيه أن البشرية قبل الإنسان، وأن آدم هو التطور الذي حدث في شكل إنسان بالعقل والإدراك، وحاول هنا أن يوفّق بين العقل والعلم، في إعادة قراءة قصّة بدء الخليقة الدينية، وبسبب هذا شنّ عليه ”المُتسرعون في الفتوى” حرباً فانقلب السّحر على السّاحر. لاحظت من خلال إجابتك أن الذين يثيرون الجدل في الجانب الفكري أو الأدبي والديني من الطرفين هم المتحكمون في نواصي العلوم أو الأدوات الفنية وليسوا الضعاف والذين يبحثون عن الشّهرة؟ فعلا، أنا أعطيت هذه اللوحة حتى ندرك أنّ الخلاف والجدل هو ساحة للتجديد والعطاء، أما الإثارة مهما كان نوعها وطبيعتها سوف تكون مثل غثاء السيّل، ترى ماذا ورثنا اليوم في الجزائر من صراع ثقافي في زمن الحركة الإصلاحية الباديسية، ورثنا نصوصاً بعضها حُقّق، وبالمناسبة لم يكفّر ابن باديس أحدا، ولم يستخدم لفظ ”القبوريين” نعتاً للمتصوفة، مثل ما يستعمله اليوم ”أشباه السّلفية والوهابية”. نعم كان يصدر ذلك في الأربعينيات من القرن الماضي، ولكن الثورة كانت أكبر، وابن باديس أكبر، والشيخ العلوي أكبر، والطريقة الرحمانية شكلت الاستثناء في الوطنية، أما نصوص السّب والشتم فمن يذكرها اليوم. على ذكر ذلك، هل هناك تعارض بين حرية التعبير واحترام القيم المشتركة؟ إن استفزاز ”القِيم المشتركة المقدّسة” قد يكون له عواقب سلبية وأحياناً لا يقدم معرفة ولا علماً ولا إضافة، ولكنه مجرّد إثارة من أجل الإثارة، ومثلهم في ذلك مثل الذين يُصدرون الفتاوى، ويخرجون فيه عن ”وسطيتنا” واعتدالنا وتسامحنا، وجهل هؤلاء بأحكام الردّة التي لم يطبق فيها الحدّ إلا على الذين ظلموا وأفسدوا، ويمكن هنا العودة إلى كتاب أراه مهما لمحمد منير السوري ”قتل المُرتدّ الجريمة التي حرّمها الإسلام”، ورأي حسن الترابي الذي لم يعترف بمسألة المرتد والأحكام المتعلقة بها، إنّ الرسول عليه السلام عفا وسامح الذين أهدر دمهم في فتح مكة، وقال العبارة الذهبية التي علينا اتخاذها شعاراً ”اذْهبُوا فأنتم الطّلقاء”، الأحرار في بلد حرّ يظلّكم الإسلام والعفو واحترام الآخر، وما أحوجنا أيضاً إلى أدباء ومفكرين لا يعانون من علاقة مُشوّهَة مَرضية مع ذواتهم وأوطانهم، وأنا متأكد من أن الإبداع الحقيقي والفكر الاجتهادي العلمي، يتجاوز تلك الحالتين المرضيتين، عند ”المفتين الشواذ” و«المبدعين الذين يسعون للإثارة”، كما أن ذلك يدفعنا إلى إرجاع إبداء الرأي حول الأعمال إلى لجان مختصّة، وإلى أهل فقه مشهود لهم بالعلم.