من طه حسين إلى عبد القادر رايس.. عقود طوال تمر علي، لكن الأدب يظل هو الأدب. إذ هاأنذا أعيد مطالعة كتاب ز في الأدب الجاهلي ز، لعميد الأدب العربي، الدكتنور طه حسين. يحدث ذلك بعد أكثر من أربعين عاما على القراءة الأولى، ومن منظور جديد بطبيعة الحال. هذا الكتاب أهدانيه زميلي الصحفي الظريف الراحل عبد القادر رايس في عام ,1970 عندما كنا نعمل معا في وكالة الأنباء الجزائرية. والحقيقة هي أنه تخلص منه لأنه كان، إلى جانب عمله في الحقل الصحفي، قد بدأ دراسة الطب، ثم ما لبث أن تحول عنه إلى دراسة الصيدلة، لكنه لم يكمل دراسته تلك. وكل ما كان يحفظه من شعر رسخ في ذاكرته منذ عهد الدراسة الثانوية إنما هو مجموعة أبيات لجرير أو للأخطل، وكان يستشهد بها كلما أراد الممازحة والدعابة والانفلات من أعباء الحياة والسياسة في ذلك الزمن. وقد كان زمنا صعبا بالنسبة له لأنه عانى وطأة الأمن العسكري في مدينة قسنطينة ، مسقط رأسه، قبل أن يجيء إلى الجزائر العاصمة ويستقر بها. بعد هذه العقود كلها/ وبعد المطالعة الأولى التي لم يبق منها الشيء الكثير في وجداني، انكببت للمرة الثانية على قراءة هذا الكتاب النفيس الذي خلخل الأرض تحت أقدام أهل الفكر والسياسة والدين منذ صدوره عام ,1924 والسبب معروف لدى كل من قرأ كتابات طه حسين أو درس شيئا من الأدب الحديث والنظريات النقدية التي ازدهرت خلال النصف الأول من القرن العشرين في مصر وفي العالم العربي كله. عترف بيني وبين نفسي بأنني إلى حد الآن لم استسغ كتاب طه حسين عن زمستقبل الثقافة في مصرس ، ذلك الكتاب الذي حاول فيه أن يجعل من مصر قطعة من ألحضارة الغربية، ومن الحضارة اليونانية على وجه التحديد. وجدت فيه إقحاما لأفكار أوربية على الفكر المصري والشرقي عموما بالرغم من أن اليونانيين كانوا قد بنوا مدينة الاسكندرية، وبالرغم من أن الأفلوطينية الجديدة ازدهرت في مصر خلال القرون الأولى للميلاد. وبمرور الزمن اكتشفت أن الدكتور طه حسين لم يكن هو الوحيد الذي اجتهد لكي يخلخل بنية الفكر العربي الحديث وينفض عنه غبار الخمول ويضعه على السكة القويمة لكي يمضي قدما إلى الأمام في بناء ذاته بذاته. عاد طه حسين إلى أرض مصر بعد عام 1919 على إثر نيله شهادة الدكتوراه من السوربون. ولما كان قد تشبع بأفكار النهضة الأوربية، وبالفكر الفرنسي أساسا، فإنه سعى السعي كله لكي يطبق منهج الفيلسوف روني ديكارت، أي نظرية الشك في كل شيء قبل الوصول إلى أرض اليقين. وكان من الطبيعي أن يواجهه خصومه الجامدون بالنكران، وأن يعمد أهل الأزهر الشريف إلى وصمه بالكفر والإلحاد، وما كان أقبحها من تهمة في ذلك الزمن. وقراء طه حسين يعرفون ما عاناه في هذا الشأن من جانب السلطة الملكية والأزهر وبعض المنتسبين إلى الجامعة ومن أهل الفكر أنفسهم. تشاء ظروف الحياة الفكرية في العالم الغربي أن يحدث شيء من هذا القبيل في الولاياتالمتحدةالأمريكية. فقد عمل أحد رجال الدين المسيحيين المتطرفين إلى حث أهل التربية والقضاء معا على محاكمة أستاذ تجرأ في إحدى الولايات على تدريس نظرية التطور لتشارلز داروين، لكنه لم يفلح في مسعاه، وقضى نحبه في قلب المحكمة التي ساق إليها خصمه. قلت لزميلي عبد القادر رايس: لقد أهديتني قنبلة موقوتة، وأنا أقبل بها! ولم يفهم كلامي هذا، والسب في ذلك هو أنه كان طلق كل ما له صلة باللغة والأدب، وغرق في الرياضيات وفي الجزيئات وفي علم التشريح. ألا رب كتاب تقرأه فيفتح دونك آفاقا ما كانت لتنفتح دونك في هذه الحياة! قرأت كتاب طه حسين في ذلك الوقت، ثم وجدتني أعرج على معظم كتاباته الأخرى، وعلى رأسهاعلى هامش السيرة وس مرآن الإسلامس و زقادة الفكرس وس من لغو الصيفس وسجنة الشوكز وغيرها من مؤلفاته الأخرى التي حركت الهمم العربية مشرقا ومغربا. وهاأنذا اليوم أترحم على روح زميلي عبد القادر رايس بعد السنين كلها من المطالعات في أدب طه حسين بالرغم من أنني ظللت على موقفي من كتابه الشهيرسمستقبل الثقافة في مصرس. وهاأنذا أيضا أرى فيه مفكرا هو أشبه ما يكون بإنسان يقف على حافة بحيرة راكدة ويطوح نحوها بحجر فيثير ماءها وكل ما يتحرك فيها من حيوانات مائية وبرمائية. ولكم آلمني أن أقرأ ذات يوم من أواخر الستينات من القرن الفائت مقالة لطه حسين يرثي فيه لحالة الصحافة في مصر بعد أن أوقفت صحيفة زالجمهوريةس التعامل معه. قال يومها بالحرف الواحد إن أولئك الصحفيين كانوا من طلبته في كلية الآداب في القاهرة، لكنهم لم يرعوا حرمة الجامعة ولا ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الاستاذ وطلبته. إنسان ضرير يعود محملا بأعلى الشهادات من أوربا، وفي زمن مظلم، شديد الحلكة، ويطوح بحجر من أحجار الفكر الهائلة فيثير كل ما حواليه، ثم يلقى ذلك العنت من أحفاده في الصحافة! نا اليوم أقول على لسان زميلي الراحل عبد القادر رايس: لو كنت أنت المشرف على هذه الصحيفة المصرية أو تلك لرفعت الدكتور طه حسين إلى أعلى عليين بالرغم من أنك طلقت الدراسة الأدبية طلاقا بائنا. رحمة الله عليك يا عبد القادر، ورحمة الله الواسعة عليك، يا طه حسين، يا من منحني متعة ما بعدها متعة في مضمار القراءة والأدب.