بقلم: صبحي غندور* بعد احتلال العراق في العام 2003 أطلقت إدارة بوش الابن ثلاثة شعارات فشل منها اثنان وبقي الشعار الثالث رهناً بما يحدث الآن من صراعات ومتغيّرات عربية. الشعار الأول كان عقب غزو العراق مباشرةً حينما تحدّث أكثر من مسؤول أمريكي عن أنّ العراق سيكون نموذجاً للديمقراطية في الشرق الأوسط وأنّ دولاً عديدة في المنطقة ستحذو حذوه. الشعار الثاني كان عن الشرق الأوسط الكبير الجديد الذي سيخرج إلى الوجود بعد تفاعلات الحرب في العراق وبعد حروب إسرائيل في لبنان وغزّة في عام 2006 والتي دعمتّها بشدّة إدارة بوش الابن. سقط حكم المحافظين الجدد في أمريكا في انتخابات العام 2008 وسقطت معهم أحلام الإمبراطورية الواحدة في العالم وأصبحت التجربة الأمريكية في العراق نموذجاً للفشل والكذب والخداع في السياسة الأمريكية ولم تتدحرج أنظمة المنطقة خلف الدومينو العراقي كما توهَّم وراهن المحافظون الجدد وكذلك كان مصير المراهنات في القضاء على ظواهر المقاومة ضدّ إسرائيل بعد حربيْ صيف عام 2006 في لبنان ونهاية عام 2008 في غزّة. أمّا الشعار الثالث الذي أطلقته الوزيرة كونداليزا رايس خلال الفترة الثانية من حكم بوش الابن فكان عن الفوضى الخلّاقة والتي كانت المراهنة على حدوثها في بلدان الشرق الأوسط من خلال تفاعلات الأزمات الداخلية في دول المنطقة. ولعلّ ما حدث ويحدث في السنوات الماضية داخل عدّة بلدان عربية يؤكّد أنّ شعار الفوضى الخلّاقة لم ينتهِ مع نهاية حكم المحافظين الجدد وبأنّ المراهنات ما زالت قائمة على هذا الشعار رغم التغييرات التي حدثت في البيت الأبيض في فترة حكم الرئيس باراك أوباما بل ازداد العمل لتنفيذ هذا السياسة خلال إدارة ترامب وتبنّيها الكامل لأجندة نتنياهو في مختلف قضايا منطقة الشرق الأوسط . الوقائع والتجارب كلّها تؤكّد وجود أهداف ومصالح ومؤسسات أمريكية محصّنة ضدّ تأثيرات ما يحدث في الحياة السياسية الأمريكية من تحوّلات و صراعات انتخابية محلّية. ولم يكن ممكناً طبعاً فصل ملف تاريخ الأزمة الأمريكية مع إيران عن ملفّات الأزمات الأخرى في المنطقة العربية وعن حلفاء طهران في سورياوالعراقولبنان واليمن وفلسطين. فإيران معنيّة بشكل مباشر أو غير مباشر في تداعيات أيّ صراع حدث أو قد يحدث فيما هو قائمٌ الآن من أزمات عربية. ومن رحم هذه الأزمات على الأراضي العربية توالدت مخاوف سياسية وأمنية عديدة أبرزها كان وما يزال من مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية خاصّةً في ظلّ امتداد دور ووجود الجماعات الإرهابية وما رافق ذلك الصراع مع الإرهاب من عنف مسلّح وصراعات وتنافس على الحكم وعلى المعارضة. والمحصّلة من ذلك كلّه أنّ صُنّاع القرار الأمريكي يأملون الآن كثيراً في تحقيق أهداف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط من خلال تفاعلات الصراعات المحلّية والإقليمية الدائرة بالمنطقة ودون حاجة لتورّط عسكريّ أمريكي كبير في أيّ من بلدانها!. وكان الانهيار يحدث عربياً (خطوة خطوة) حول أكثر من قضية وفي أكثر من مكان وزمان ونجحت واشنطن و إسرائيل في خطوات عرْبَنة الصراعات إضافةً إلى تقييد مصر عن ممارسة دورها العربي الريادي منذ توقيع اتفاقيات كمب ديفيد والتي كان فاتحة عصر المعاهدات والتطبيع مع إسرائيل . مع هذا التطوّر النوعي في المنطقة الذي حدث من خلال توقيع المعاهدة المصرية/الإسرائيلية في حقبة السبعينات من القرن الماضي انتقلت العلاقات العربية/الأمريكية من دور الخصومة الى دور الشراكة وكانت أبرز الآمال الأمريكية من هذا الدور الجديد تشجيع الأطراف العربية على استكمال الخطوات التي بدأت بين مصر و إسرائيل وذلك عبر صيغة مؤتمر مدريد أولاً ثم من خلال الاتفاقيات المنفردة كالاتفاقيات السرّية في أوسلو وما تلاها من اتفاق وادي عربة بين الأردن و إسرائيل . ورغم ما يظهر على السطح أحيانا من تباين بين إسرائيل وأمريكا فهناك في تقديري غايات كثيرة مشتركة بين الطرفين وبغضّ النظر عمّن هو الحاكم في إسرائيل أو في أمريكا. وهذه المصالح والأهداف المشتركة هي: 1- إبقاء التفوّق العسكري الإسرائيلي على الدول العربية مجتمعة والضغط على الدول الكبرى لمنع تسليح بعض الدول العربية. 2- فرض العلاقة والتطبيع بين العرب و إسرائيل بغضّ النظر عن مصير قضايا الملف الفلسطيني. 3- السعي لمنع ومحاصرة أي مقاومة مسلّحة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين كما في لبنان أيضاً. 4– التحفّظ على أي تضامن عربي شامل حتى في حدّه الأدنى وتشجيع الصراعات العربية/العربية التي هي لإسرائيل مصدر قوّة ولأمريكا مبرّرٌ لطلب المساندة منها!. 5- تعطيل التقارب والتفاعل بين العالمين العربي والإسلامي خاصة مع الجوار الإيراني والتركي وبالمقابل تعزيز الدور الإسرائيلي في دول العالم الإسلامي وطبعاً بدعم أمريكي. *مصالح أمريكية وفي ظلّ هذا الواقع للسياسة الأمريكية بالمنطقة هناك مصالح أمريكية مستمرّة فيها (الأمن النفط التجارة تصدير السلاح) ممّا يؤكّد بالنسبة لأمريكا أهمية المنطقة استراتيجياً واقتصادياً وأمنياً لسنوات طويلة. كذلك تدرك واشنطن أنّ سيطرتها الكاملة على المنطقة العربية هو أمرٌ يتنافس مع مصالح دول كبرى أخرى كأوروبا وروسيا والصين وهذا ما يجعل المنطقة ساحة تنافس دولي وهو ما يحصل الآن وسيزداد تصاعداً في المستقبل القريب أضافة إلى التنافس مع مصالح قوى إقليمية كبرى كإيران وتركيا. أيضاً هناك صراع على مستقبل هويّة المنطقة فالعرب يريدونها هويّة عربيّة وأمريكا تعمل للهوية الشرق أوسطية وأوروبا تدعو إلى الهوية المتوسطية .. طبعاً مع استمرار السعي الإسرائيلي لبناء دولة إسرائيل الكبرى .. وقد سقطت في حقبة التسعينات من القرن الماضي جملة مفاهيم أو أعذار كانت سبباً أحياناً في سوء العلاقات العربية-الأمريكية. ومن هذه المفاهيم – أو الأعذار- الأمريكية التي سقطت: أنّ أمريكا غير عادلة في سياستها بالمنطقة العربية لأنّ بعض دول المنطقة ترتبط بعلاقات خاصة مع أعداء أمريكا الدوليين (كما كان يقال في حقبة الحرب الباردة مع السوفييت).. وقد سقط هذا المفهوم ولم تعدّل أمريكا من مواقفها تجاه العرب. أنّ سياسة أمريكا غير عادلة بسبب وجود طروحات اشتراكية وثورية .. إلخ (كما كان في الستينات من القرن الماضي). وقد انتهت هذه الطروحات وأصبحت الحكومات العربية منسجمة جداً مع المعايير الاقتصادية الأمريكية.. ولم تعدّل أمريكا!! أنّ أمريكا لا تستطيع العمل الجاد لحلّ الصراع العربي/الإسرائيلي ما لم يتفاوض العرب مع إسرائيل ويعلنوا عن استعدادهم للاعتراف بوجودها من خلال اتفاقيات صلح وسلام .. وقد حصل ذلك ولم يتغيّر عملياً الموقف الأمريكي!. أنّ أمريكا تريد الاطمئنان أكثر في المجال الأمني بالمنطقة وتريد معاهدات ثنائية معها .. وحصلت هذه المعاهدات وأصبح الوجود العسكري الأمريكي أمراً واقعاً ومقبولاً من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي مروراً بمصر والأردنوفلسطين.. وما زالت رغم ذلك أمريكا غير مطمئنّة !؟. وحينما تولّت الولاياتالمتحدة قيادة الغرب أولاً بعد الحرب العالمية الثانية ثمّ قيادة العالم بعد انهيار الإتحاد السوفياتي كرّرت خطايا المستعمر الأوروبي في أكثر من مكان وزمان وهي الآن تدفع الثمن غالياً لهذه الخطايا مما يُهدّد دورها الريادي العالمي تماماً كما حصل مع بريطانيا وفرنسا في آخر حروبهما بالمنطقة خلال حقبتيْ الخمسينات والستينات من القرن الماضي والتي كانت فيها مصر- عبد الناصر تقود معارك التحرّر الوطني من المستعمر الأجنبي. فالقوى الكبرى لم تدرك بعد أنّها رغم تجزئة المنطقة العربية والهيمنة عليها لقرن من الزمن ورغم وجود دولة إسرائيل الحاجز بين مشرق العرب ومغربهم ورغم العلاقات الخاصة مع بعض الحكومات حصلت في المنطقة معارك التحرّر الوطني وثورات الاستقلال وحركات المقاومة ومحاولات التوحّد بين بعض الأوطان. لكن للأسف فكما أنّ الغرب لم يتعلّم من تجارب (قابلية الإستعمار للانكسار) فإنّ العرب في المقابل لم يتعلّموا أيضاً من (قابلية ظروفهم للاستعمار). فالمنطقة العربية (وأنظمتها تحديداً) لم تستفد من دروس مخاطر فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن. لم تستفد المنطقة أيضاً من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية والتي يتمّ الآن تجاهلها أيضاً هو درس مخاطر الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسس دينية أو إثنية حيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولعودة الهيمنة الخارجية من جديد. فالشعوب يمكن تضليلها أو قهرها أو احتلالها لفترة من الوقت لكن هذه الشعوب لا يمكن أن تقبل بديلاً عن حرّيتها وبأنّ الأوطان العربية لو تجزّأت سياسياً فهي موحّدة في ثقافتها وفي تاريخها وفي همومها وفي آمالها. فهكذا كان تاريخ المنطقة العربية طيلة القرن الماضي: كرٌّ وفرّ مع المستعمر أو المحتل لكن لا خضوع له. كما كان القرن الماضي حافلاً بالحركات والانتفاضات الشعبية المؤكّدة على وحدة الأمَّة أرضاً وشعباً وإن ازدادت المسافات بين الحكومات والكيانات بعداً!.