-الجزء التاسع والأربعون- بقلم: الطيب بن ابراهيم *فشل إنشاء إرساليات جديدة بجوار الأبيض بعد تأسيس إرسالية الأبيض سيد الشيخ سنة 1933 واكتشاف الإرساليين للمنطقة جغرافيا وتكيفهم مع السكان اجتماعيا واختراقهم ثقافيا ازدادت حماستهم وفُتحت شهيتهم للتمدد أكثر في المنطقة البدوية بين السكان الرحل واعتقدوا بسذاجتهم أن هؤلاء البدو الرحل الأميين البسطاء لا يفرقون بين هديل الحمام وفحيح الأفاعي وفاتهم أن هؤلاء هم عباقرة في علم الفراسة وجهلوا أن منطق حالهم يقول ما قاله خليفتهم عمر رضي الله عنه : لست خبا ولا الخبُّ يخدعني . قرّر إخوة يسوع الصغار زرع مجموعة جديدة من القواعد الأمامية بين هؤلاء البدو وإنشاء إرسالية بدوية ثانية بعد إرسالية الأبيض واختير لها المكان المسمى ب البنود جنوب الأبيض سيدي الشيخ بحوالي ثمانين كيلومترا ( بلدية حاليا ) حيث كان يوجد بالمكان بئر ماء لكونه يقع في بداية طريق قوافل التجار الرابط بين الأبيض سيدي الشيخ شمالا وقصور إقليم توات بأقصى الجنوبالجزائري فكان المكان نقطة عبور واتصال بين البدو وأيضا يعد مدخل طريق قوافل التجار التاريخي بين الشمال والجنوب فاختير المكان لإستراتيجية موقعه في الصحراء لمحاصرة البدو أثناء إقامتهم وتنقلهم. كان مشروع تأسيس إرسالية البنود جنوب الأبيض يمثل محطة أكثر عمقا داخل منطقة البدو الرحل وسيكون أكثر تواصلا مع السكان البدو لأن المكان بعيد عن مدينة الأبيض ومعزول نسبيا والبدو هناك مُجبَرون على التعامل مع الإرسالية في حالة تأسيسها خاصة في الحالات والمواقف الحرجة كالمرض ولدغ الأفاعي ولسع العقارب والإصابة بالحروق أو الجراح الخطيرة وفي حالة الأوبئة والمجاعة وخبراء التنصير يحسنون التفكير! . اقتُرِح مشروع تأسيس هذه الإرسالية الجديدة بجنوب الأبيض بمنطقة البنود في شهر ديسمبر سنة 1935 وكان أكثر المتحمسين لهذا المشروع المستشرق لويس غاردي والمشروع الجديد يختلف عن إرسالية الأبيض المستقرة فهو مشروع متنقل يهدف إلى تأسيس إرسالية بدوية بين السكان الرحل وهي عبارة عن مجموعة من الخيم يقيم بها الإخوة كما كان يفعل بعض متصوفة المنطقة في سابق العصور بما فيهم مؤسس الزاوية الشيخية سيدي الشيخ نفسه الذي كانت زاويته البدوية المتنقلة في خيمة أسبق من زاويته المستقرة بالأبيض وهكذا تكون الإرسالية الجديدة متنقلة في عمق منطقة سكانها البدو الرحل المتنقلون تستطيع أن تقدم خدماتها لفقراء الصحراء كما كان يقول مرجعهم شارل دي فوكو . بعد أن اقتنع رجال الإرسالية الأم بالأبيض بفكرة مشروعهم الجديد واجمعوا على أمرهم راسلوا الجهات الكنسية الوصية بمدينة الجزائر عن الموضوع وحسب مشروعهم المقترح تَقرَّرَ أن القس روني فوايوم رئيس إرسالية الأبيض يبقى بمقر إرساليته مع بعض مساعديه بينما القس مارسال بوشي والقس مارك والمستشرق لويس غاردي وجون دولاكروا يلتحقون بالمقر الجديد بالبنود إن تحقق ذلك ومبدئيا أعطى الأسقف مارشال المقيم بمركز الآباء البيض بالحراش بمدينة الجزائر موافقته على المشروع في رسالة منه أرسلت لرئيس إرسالية الأبيض روني فوايوم بتاريخ 9 أوت سنة 1936 إلا أن المحافظ الرسولي غوستاف نوي المكلف بالصحراء والمسئول المباشر على الموافقة عارض فكرة مشروع إرسالية البنود المقترح واقترح بدله العمل في مكان آخر بالصحراء هو مدينة بني عباس وهكذا أُجبر الإخوة على التخلي عن مشروع تأسيس إرساليتهم البدوية المتنقلة بالبنود . ورغم رفض مشروع الإرسالية المقترح بين السكان البدو الرحل من قبل الأسقف غوستاف نوي إلا أن الفكرة لم تمت وبقيت مطروحة تنتظر الوقت المناسب إلى أن أعاد إحياءها رئيس الإرسالية الجديد المتحمس القس ميلاد عيسى وفي أول فرصة أتيحت له في جوان سنة 1951 تم تأسيس أول إرسالية بالبادية مكونة من ثلاث خيم حيث خرج مجموعة من الإخوة إلى الإقامة والتنقل ببوادي الأبيض داخل خيمهم الثلاث بين البدو الرحل تحت إشراف شخصية مشهورة في مغامراتها هو جون فرانسوا باريولو ( 1926 - 2005Jean François Parioleau ( رفقة زميليه Pierre Chalet و Jean-Michel وكانت هذه الإرسالية بمحيط الأبيض أي ببوادي الأبيض القريبة حيث تتراوح مسافة بعدها عن المدينة مابين العشر كيلومترات والثلاثين كيلومترا في معظم الأحيان لا أكثر. ولحماسة رئيس الإرسالية الأبيض القس ميلاد عيسى في تأسيس المزيد من الإرساليات بالمنطقة طرحت مرة أخرى مسألة فتح إرسالية جديدة سنة 1952 لتكون هذه المرة مستقرة ببلدية اربوات بشمال الأبيض سيدي الشيخ وهي أحد أهم وأقدم القصور المتواجدة بالمنطقة حتى قبل الفتح الإسلامي لكن هذا المشروع كان أيضا مصيره الفشل لأن الجهات الوصية كانت استراتيجيتها في التخطيط تختلف عن نظرة جنودها المحليين. *البداية بإرسالية الأبيض منذ أربعينيات القرن الماضي لفت تلامذة شارل دي فوكو أنظارهم إلى جهات أخرى من الجزائر لتأسيس عدد من الإرساليات وتوسيع دائرة نفوذهم وتحركهم فبعد أول إرسالية بالأبيض سيدي الشيخ في شهر سبتمبر سنة 1933 تم تأسيس ثاني إرسالية بجبل بيسا بالقرب من تنس في شهر نوفمبر سنة 1945 تلتها إرسالية القبّة بمدينة الجزائر سنة 1948 ثم إرسالية بني عباس سنة 1950 وإرسالية البادية بالأبيض سيدي الشيخ سنة 1951 ثم تأسيس إرسالية حسين داي سنة 1952 تلتها إرسالية وهران سنة 1954 وآخرهم إرسالية تامنراست سنة 1955 . بعد أن كانت الجزائر أول محطة لتجربة إرساليات تلامذة شارل دي فوكو بدا تعميم المشروع على بقية دول المغرب العربي التابعة للاحتلال الفرنسي فتأسست إرساليات أخرى في المملكة المغربية وفي تونس كان ذلك في منتصف الخمسينات تم نقلت التجربة فيما بعد حتى إلى أوروبا نفسها فنما عدد إرساليات تلامذة شارل دي فوكو في مجموعها إلى أن تجاوز المائة إرسالية مع بداية الثمانينات ت حديدا سنة 1983 .