تكررت تحذيرات علماء الدين من اختلاط الحابل بالنابل في ساحة الإعلام الديني ومطالباتهم بتطبيق الآية القرآنية الكريمة: _فأسالوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون_، ومناشدتهم بقصر الإفتاء في أمور الدين على أهل الاختصاص أملاً في وضع حد لهذا الجدل الفقهي الذي تشيعه القنوات الفضائية ليل نهار، ومع ذلك فإن سيل الفتاوى المتضاربة والمثيرة للجدل التي تتجاهل واقع الناس وسماحة ووسطية الدين الإسلامي الحنيف لا يتوقف، على الرغم من مخالفته لآيات قرآنية وقواعد فقهية متعارف عليها منذ قرون. فإذا كان أصحاب المهن كالأطباء والمهندسين لا يمارسون مهنتهم إلا بعد الحصول على رخصة تخول لهم ذلك، فلماذا يعتلي المنبر من لم ينل شهادة تؤكد صلاحيته للإفتاء في أمور الدين؟! وهل يمكن ضبط تضارب الفتاوى ب _رخصة_ للمفتي تمنح له إذا اجتهد فأصاب وتسحب منه إذا اجتهد فأخطأ؟! وهل يجوز شرعاً قصر الإفتاء في الأمور العامة على المجامع الفقهية ودور الإفتاء في عالمنا الإسلامي لمواجهة تلك البلبلة والتصدي لسيل الفتاوى المثيرة للجدل التي تبثها القنوات الفضائية الدينية؟. وباء الفتاوى يحذر الدكتور محمود حمدي زقزوق، حسب »الاتحاد« الإماراتية، مما وصفه ب _وباء الفتاوى_ الذي تفشى في بعض القنوات الفضائية، ويقول: هي في حقيقة الأمر أكبر إساءة للإسلام والمسلمين بما تنشره على العالم كله من فتاوى مختلفة تجر المسلمين إلى الخلف وتزيدهم تخلفاً. وأضاف: كل من هب ودب أصبح يصدر فتوى ومنهم مشايخ الفضائيات، فلابد من سرعة إصدار قانون لردع هؤلاء الذين يصدرون فتاوى تصرف المسلمين عن قضاياهم الأساسية وتأخذهم للانشغال بقضايا تافهة وفرعية. كما طالب بوقفة جادة تضع ضوابط صارمة لمن يتصدى للفتوى وقاية للمجتمعات الإسلامية من البلبلة الفكرية والدينية التي يتسبب فيها من لا يصلحون لهذه المهمة الخطيرة. آليات جادة أما الدكتور أحمد عمر هاشم فيطالب بوضع آليات جادة لمواجهة فوضى الفتاوى عبر الفضائيات الخاصة التي يملكها أناس يأتون بأي شخص ليقول ما شاء، معتبراً ذلك من أكبر الأخطاء التي أدت إلى بلبلة بين الناس فيما هو حلال وما هو حرام. وأضاف: الفتاوى نوعان الأول فتاوى من قبيل التناصح بين المسلمين فيما هو معروف بين الجميع، والناس مأمورون بأن يتناصحوا فالدين النصيحة، ولكل إنسان أن يقول للآخر صل وصم وحج وامتنع عن المنكرات. لكن هناك أموراً من الفتاوى لا يمكن أن يفتي فيها إلا العالم والفقيه والمتخصص وليس _كل من هب ودب_، وقد نجد اختلافاً في الآراء وفي المذاهب الفقهية وهذا نتيجة للاجتهادات واختلاف المذاهب وحين يكون هذا من أهل العلم فإنه أمر جيد وتوسعة على الناس، ولكن عندما يكون ممن ليسوا من أهل العلم تكون الطامة الكبرى. تضارب وبلبلة ويؤكد الدكتور محمد الشحات الجندي أن تضارب الفتاوى مسألة فاقت كل الحدود وأثارت البلبلة ولم يعد الناس يدرون أي الفتاوى يتبعون. وقال إن هذا لا يتطابق مع طبيعة الفتوى ولا مهمة المفتين فالفتوى إبلاغ لحكم الشرع والمفتي يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم وهي مهمة جليلة تحتاج إلى تأهيل واختصاص ومراقبة لله، والأهم أنه يجب أن يتوافر فيمن يتصدى لتلك المهمة العلم بكتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه الفقهاء ومعرفة مصلحة المجتمع وحقيقة الشخص الذي يسأل وأن يقصد من فتواه وجه الله، وإذا طبقنا هذه المعايير على الفتاوى المعاصرة فسنجد أن الكثير منها خاصة فتاوى الفضائيات يعاني العشوائية والفوضى ولا يحقق سوى ما يطلبه المشاهدون سعياً نحو مزيد من الشهرة والربح المادي. فإذا كان الجمهور في تلك القناة يريد التشدد نجد الفتاوى المتشددة وإذا كانوا يريدون التساهل نجد الفتاوى المتساهلة، وهذا لا يتماشى مع مقاصد الشرع الإسلامي ودين الوسطية والاعتدال. وأولى بالمفتين أن يبتعدوا عن هذه الأمور فالإفتاء أمانة وبلاغ من المفتي إلى المستفتي وهذه الأمانة لا تكون إلا من المؤهل القادر على ذلك. توحيد الفتاوى وحول إمكانية توحيد الفتاوى بين المجامع الفقهية ودور الإفتاء في الدول الإسلامية، قال الدكتور محمد الشحات الجندي: الفتاوى اليومية التي تتعلق بالعبادات والصيام وما شابه ذلك لا تحتاج إلى جماعية، لأنها نمطية تتكفل بها دور إفتاء ومن تتوافر فيهم تلك الشروط، أما الفتاوى التي تتعلق بمصالح الأمة أو المستجدات فينبغي أن تعرض على المجامع الفقهية وألا يستقل بها أحد، لأن ذلك هو الطريق الآمن والمضمون لإصدار مثل هذه الفتاوى، وأن يكون ذلك بالتنسيق بين المجامع الفقهية ودور الإفتاء في العالم الإسلامي في هذا الشأن حتى تكون الفتوى ملزمة وأوجب بالاتباع. ويرى الدكتور سالم عبد الجليل ضرورة توحيد جهة الفتوى في العالم الإسلامي. ويقول: يجب أن نحترم التخصص، ولا يمكن أن يتساوى من درس في الأزهر منذ نعومة أظفاره كل العلوم الشرعية مع من قرأ بعض الكتب في الكبر، وظن أنه بذلك حصل كل العلوم وأصبحت لديه القدرة على الإفتاء الذي يعد مسؤولية عظيمة أحرى بالعالم الحقيقي الزهد فيها، وليس التقاتل من أجلها وكأنها مغنم، فالجرأة على الإفتاء تؤدي إلى الفوضى والبلبلة كما نرى الآن، ولابد من وضع ضوابط للقضية بدلاً من تلك الفوضى التي تسيء إلى الإسلام والمسلمين، وفي الوقت نفسه فإن من حق غير الأزهريين تناول كل قضايا الدعوة والوعظ والإرشاد أما الإفتاء فله أهله. نزيف وعشوائية ويؤكد الدكتور نصر فريد واصل أن الأمة الإسلامية تعاني أزمة حادة تتمثل في نزيف الفتاوى الغريبة التي انتشرت بشكل عشوائي بسبب انتشار الفضائيات التي تعرض البرامج الدينية وتروج للفتاوى الشاذة والغريبة من باب لفت الأنظار للقناة أو لجذب المشاهدين، وهو ما يحتم علينا العمل على ضبط مجال الفتوى خاصة في مسألة الفتاوى المباشرة التي يسمع فيها المفتي السؤال ويجيب في نفس اللحظة بحثاً عن الإثارة وجذب المشاهدين. وقال: لقد طالبتُ كثيراً بضرورة وقف نزيف الفتاوى على الفضائيات وضبطها لئلا تتسبب في إحداث كارثة يختلط فيها الحق بالباطل، فانتشار هذه الفتاوى يضر بالمجتمع ويهدد أمنه وسلامته، ويجب أن نعود إلى الفتاوى المكتوبة الصادرة عن المجامع الفقهية ودور الإفتاء وجهات الاختصاص. أما الدكتور إسماعيل الدفتار -أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر- فيقول: لا يصح لأي إنسان أن يتكلم فيما لا يعلم وخاصة في أمور الدين لأنه افتراء الكذب على الله ورسوله، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفرون من الفتوى ويحيلونها إلى بعضهم حتى لا يقعوا في المحظور بخاصة أن هناك حديثاً مشهوراً: _أجرؤكم على الفتيا أجرأكم على النار_، وفقهاؤنا القدامى كانوا حريصين كل الحرص على ألا يخوضوا فيما لا يعلمون. روح الشريعة والواقع ويعرف المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة الاجتهاد بأنه عقد قران بين روح الشريعة ومقاصدها وبين الواقع المتطور والمصالح المتجددة. ويقول: الاجتهاد اليوم مع تعقد الواقع وتباين أحوال الناس، وتشتت المسلمين يحتاج إلى إجماع وهو ما نسميه بالاجتهاد الجماعي، فقد تغيرت الأحوال في الجهتين جهة الحياة فأضحت معقدة، وجهة الثقافة الموسوعية المتمثلة في معالم التخصصات الدقيقة، ولم يعد بإمكان المجتهد الفرد أن يلم بحقائق الأشياء وحده، وأمام كل تلك التحديات لابد أن يتخذ الاجتهاد الإسلامي أسلوباً جديداً ليلبي احتياجات هذا الواقع الجديد، فأهل الذكر لم يعودوا هم الأفذاذ من علماء الشريعة وحدهم. وأضاف: أصبح الاجتهاد يتطلب أن يشمل الأمر خبراء في التخصصات العلمية بجانب علماء الدين، وأن تتبلور المؤسسات الفكرية التي تجمع الخبرات في علوم الدين والدنيا معاً ليعود للاجتهاد تألقه، ملبياً احتياجات الناس مع مراعاة الواقع المتجدد وهذا المنهج لا يتحقق إلا في الصلة العلمية المتينة بين الخبرة العلمية التشريعية والخبرة العلمية التطبيقية والتنفيذية، وهنا يتجلى مبدأ من مبادئ الإسلام العظيمة، وهو مبدأ الشورى، حيث إن رأي الجماعة أقرب إلى الصواب من رأي الفرد، مهما ارتفع شأنه في المعرفة، وعلا كعبه في العلم. رخصة الإفتاء يؤكد فضيلة مفتي الديار المصرية الدكتور علي جمعة أن الخلاف إذا تم بين المتخصصين فلا بأس به ودليل على سعة الفقه الإسلامي، كما أن الخلاف بين المجامع الفقهية محصور وهو عبارة عن وجهات نظر في تقييم الواقع وإيقاع الشريعة عليه ولا يرى أبداً اختلافاً كبيراً بين المجامع الفقهية في هذه المسألة. وحول المطالبة بحصول المفتين على رخصة للإفتاء يقول: المسألة لا تحتاج إلى رخصة، فهناك أساتذة الفقه والشريعة في الأزهر والكليات الدينية وهم المشتغلون بهذه الصناعة وبهذا العلم، وهم المتخصصون مثل الأطباء ليس هناك طبيب يمارس المهنة دون إجازة من النقابة ولكن الذي يمنحهم العلم هو كلية الطب ثم تأتي إجراءات كثيرة في نهايتها قضية الإجازة وأكبر جهة في هذا هي المجامع الفقهية ودور الإفتاء في العالم الإسلامي وفتاوى هؤلاء هي الأوجب بالإتباع. ويطالب الدكتور علي جمعة بعدم التشدد في الفتوى، مؤكداً أن الدين الإسلامي دين اليسر وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسيدة عائشة رضي الله عنها: _يا عائشة إن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه وما نُزع من شيء إلا شانه_، وقال أيضا: _لن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه_ وهذا العنف والتشدُّد في الفتاوى طارئ على الإسلام دين الحنيفية السمحة ودين السِّعة والتسامح.