لكل بلد من البلدان رجالاته، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي رجل الشام في عصره حيث فاخروا به واعتزوا بعلمه وفكره، توفي والده وهو صغير، وانطلق يلعب كما يلعب باقي الغلمان يقول عن نفسه: فمر بي ذات يوم شيخٌ جليل من العرب ونحن نلعب، ففر الصبيان حين رأوه، وبقيت وحدي. فقال: ابن من أنت؟ فأخبرته: فقال: يا ابن أخي يرحم الله أباك، ثم أخذ بيدي وذهب بي إلى بيته، فكنت معه حتى بلغت فألحقني بالديوان - أي عمل الدولة- ثم أُرسلت إلى اليمامة فلما قدمتها ودخلت المسجد الجامع وصليت وخرجت قال لي رجل ممن كان معي: رأيت يحيى بن أبي كثير معجباً بك يقول: ما رأيت في هؤلاء أهدى من هذا الشاب، فجالسته، فكتبت عنه أربعة عشر كتاباً أو ثلاثة عشر، وأمره بترك العمل والتفرغ للعلم والذهاب إلى كبار العلماء في البلاد، ففعل ذلك وأكبَّ على العلم حتى أصبح إماماً كبيراً من أكابر علماء عصره وصار مجتهد البلاد الشامية. نشأ على نُسك وصلاح وحسن رأي واستقامة سيرة، وتواصل مع كل الناس ومن جميع الأديان الموجودة في بلاد الشام، وقايسوه بعلماء عصره، وما نال هذه الدرجة إلا بهمَّة عالية وعزة نفس رفيعة وتوازن في الرأي وقوة في الحجة، قال تلميذه الوليد بن مزيد البيروتي: سبحانك يا الله تفعل ما تشاء. كان الأوزاعي يتيماً فقيراً في حجر أمه تنقله من بلد إلى بلد وقد جرى حكمك فيه أن بلغته حيث رأيته. ثم يخاطب ابنه فيقول: ما سمعت منه قط كلمة فاضلة إلا احتاج مستمعُها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكاً قط حتى يقهقه، ولقد كان إذا أخذني في ذكر الميعاد أقول في نفسي: أترى في المجلس قلب لم يبكِ؟ لقد تسنم الأوزاعي مقاماً رفيعاً في القرآن ثم الحديث وروايته وحديثه في كتب الإسلام ودواوينه. وصار أحد أكابر فقهاء عصر وأئمة الاجتهاد وتمذهب الناس بمذهبه في الشام والأندلس، ردحاً من الزمان وكان مرجع العامة والخاصة مثله مثل مالك ابن أنس، وكان أحد الكتاب الأدباء الذين شهد لهم بضاعة الكتابة وتراسل وترك وراءه رسائل أدبية تؤثر وتدل على مقامه الرفيع وكان أحد أوائل المصنفين للكتب الفقهية والحديثة في الإسلام فإذا ذُكر الأوائل في هذه الباب ذكر معهم . وكان أحد علماء التربية والتوجيه الاجتماعي الذي يستشيره الحكّام، وقد استقر آخر عمره في بيروت وكانت مدينة الساحل الشامي في عصره يعلم الناس العلم ويهذبهم على اختلاف أديانهم وبموته فقدوا جميعاً مربياً عظيماً. لقد ترك مآثر جليلة في العلم والتربية ومنها: "إن الله إذا أراد بقوم شراً فتح عليهم الجدل ومنعهم العمل". فرحم الله الإمام الأوزاعي المجتهد الفذ، المربي الناجح .