بقلم: إبراهيم نوار دعك من أنه أصغر رئيس الوزراء سنا منذ عهد اللورد ليفربول عام 1812 أثناء الحرب النابولونية. ودعك من أنه ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية العالمية من حيث مصاهرته لواحد من أغنى أغنياء الهند والعالم وأن ثروته هو وزوجته وهو الآن في بداية الأربعينيات من عمره تقترب من المليار دولار. دعك من كل ذلك واسأل نفسك سؤالا واحدا: هل وصل الناخبون البريطانيون فعلا إلى مرحلة قبول أن يحكمهم واحد من أبناء الأقليات التي جاءت من المستعمرات البريطانية السابقة؟ الإجابة على هذا السؤال بنعم ليست بالأمر المستحيل فقد فعلها الأمريكيون قبلهم عام 2008 وانتخبوا واحدا من أحفاد العبيد الذين ساقهم الأوروبيون من القارة الأفريقية إلى أمريكا في عصر الاستعمار. اختاروا لمنصب رئيس الولاياتالمتحدة باراك أوباما ليس لفترة واحدة فقط ولكن لفترتين كاملتين. ومن المشابهات التاريخية أن يفوز سوناك وسط أزمة اقتصادية طاحنة كما فاز أوباما أيضا وسط أزمة 2008 التي بدأت من الولاياتالمتحدة وانتشرت في العالم فهل يعني ذلك أن ناخبي البلدين يثقون في قدرة أبناء الأقليات ويأتمنونهم على إدارة الاقتصاد خصوصا في أوقات الأزمات؟ هذا على الأرجح صحيح. ويمكن القول إن قدرة أبناء الأقليات على إدارة الاقتصاد بكفاءة لا يتطرق إليها الشك هذا ما تثبته تجربة أوباما وربما تثبته أيضا تجربة سوناك الذي قاد خطة اقتصادية ناجحة خلال جائحة كورونا حدت من انتشار البطالة أو سقوط ملايين الأسر في هوة الفقر. ومن المشابهات التاريخية أيضا أن يصعد سوناك إلى أعلى منصب سياسي في البلاد بزعامة حزب المحافظين المعروف بميوله الإنكليزية التقليدية ليكرر للمرة الرابعة ثلاث سوابق في تاريخ السياسة البريطانية: *سوابق تاريخية السابقة الأولى كانت في العصر الفيكتوري حينما صعد بنجامين دزرائيلي إلى زعامة حزب المحافظين ورئاسة الوزراء (1874- 1880). وقد شهد ذلك العصر صعود شخصيات من غير الإنكليز البروتستانت إلى مناصب كبيرة لفترات طويلة خصوصا بعد زواج الملكة فيكتوريا من ابن خالها الأمير ألبرت أمير إحدى مقاطعات ولاية ساكسونيا الألمانية عام 1840. السابقة الثانية كانت صعود هربرت صاموئيل إلى الصفوف الأولى في قيادة حزب الأحرار حتى أصبح زعيم الحزب (1931- 1935). وقد شغل صاموئيل منصب وزير الداخلية مرتين (1916) و(1931- 1932) وكان أول مندوب سام لبريطانيا في فلسطين (1920- 1925) وهو الرجل الذي وضع سياسة الهجرة المنظمة لليهود ورفض فكرة التعايش العربي – اليهودي وأصر على أن يعيش اليهود في دولة خاصة بهم وذلك قبل صدور قرار تقسيم فلسطين من الأممالمتحدة بأكثر من 25 عاما. ومع أن صفات صاموئيل السياسية لا تدعو للاحتفال بين العرب فإن صعوده في السياسة البريطانية على منصة دوره الاجتماعي والقانوني خصوصا في مناصرة قضايا الأقليات يضيف أدلة تاريخية إيجابية على أن القيم الليبرالية البريطانية الحالية لها جذور تاريخية مهمة وليست وليدة اليوم. أما السابقة الثالثة التي لا يشير إليها أحد تقريبا فكانت صعود بوريس جونسون إلى زعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة عام 2019. وينحدر جونسون من عائلة تركية ولعب جده الأكبر لأبيه دورا مهما في السياسة خلال الفترة المتأخرة من العصر العثماني حتى بداية الثورة الكمالية. جده علي كمال بدأ حياته العامة صحافيا تماما كما بدأ بوريس وأصبح في ما بعد رئيسا لتحرير صحيفة إقدام التقدمية المعارضة للسلطان عبد الحميد. وبسبب التضييق عليه هاجر إلى سويسرا حيث التقى هناك زوجته السويسرية – الإنكليزية الجدة الكبرى لبوريس. واستمر هناك في منفاه الاختياري حتى ولدت له زوجته ابنه الأول عثمان وهو جد بوريس جونسون. ثم تعرض علي كمال لإغراء العودة إلى تركيا بعد انتصار حركة تركيا الفتاة وعزل السلطان عبد الحميد فعاد ودخل معترك الحياة العامة وتولى منصب وزير الداخلية لفترة قصيرة عام 1919. وبعد صعود أتاتورك للسلطة راحت تطارده المتاعب السياسية بسبب انتقاده لرجال العهد الجديد حتى تم القبض عليه. وفي طريق ترحيله من إسطنبول إلى أنقرة للمحاكمة بتهمة الخيانة تعرض لهجوم مجموعة من الغوغاء أشبعوه ضربا بالعصي والحجارة حتى خارت قواه تماما فعلقوه على جذع شجرة وشنقوه. وقد كتب فيه ناظم حكمت قصيدة قال فيها: رأيت دمه ينزف على وجهه متدحرجا إلى شاربه صرخ أحدهم: امسكوا به! وأمطروه بضربات العصي وقذفوه بالحجارة وحبات الخضار العطنة وعندما سقط حملوه إلى جذع شجرة وشنقوه على فرع منها يطل على الجسر *التحدي الذي يواجه سوناك صعود ريشي سوناك هو إذن الصعود الرابع لشخصية من أصول تنتمي للأقليات إلى قمة السياسة لكنه أول بريطاني من أصول آسيوية يصعد إلى هذه المكانة. ويجسد صعوده حقيقة التوافق بين قيم الليبرالية الإنكليزية والمساواة في الحقوق والمزايا السياسية على أساس المواطنة من دون تمييز أو قيود. وقد حصل سوناك على تأييد سياسي من قيادات المحافظين الإنكليز التقليديين بمن فيهم شخصيات تنتمي إلى أقصى يمين الحزب مثل مجموعة الأبحاث الأوروبية التي تنتمي إليها وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان الأشد تعصبا ضد المهاجرين مع إنها هي نفسها تنحدر من أصول مهاجرين آسيويين. ومع ذلك فقد يكون بين صفوف أعضاء الحزب وروابطه الرسمية من لا يشعر بتوافق مع وجود زعيم للحزب من أصول آسيوية. *أين حزب العمال من صعود سوناك؟ صعود سوناك يجب حسابه إيجابيا لصالح القيم الليبرالية العريقة وسط المحافظين الإنكليز الذين لا يشعرون بأي نوع من عدم التوافق مع وجود قيادة للحزب من بين أبناء المستعمرات السابقة لكن على العكس من ذلك فإن حزب العمال الفابي أو الديمقراطي الاجتماعي لم يثبت بعد أنه وصل إلى هذه المرحلة ليس فقط في مقدار التسامح مع أبناء الأقليات والمستعمرات السابقة على الرغم من وجود شخصيات داخل صفوف القيادة تنتمي إليها ولكن أيضا في مقدار التنوع الجنسي داخل صفوف القيادة وهو التنوع الذي يشهد منذ مجيء كير ستارمر إلى رئاسة الحزب دفعة كبيرة بزيادة عدد النساء في صفوف القيادة بمن في ذلك نائبة رئيس الحزب أنجيلا رينر. وما زال أمام حزب العمال طريق طويل يتعين عليه أن يقطعه للحاق بحزب المحافظين من حيث التسامح العرقي والتنوع الجنسي وفتح الطريق للمرأة إلى زعامة الحزب ورئاسة الوزراء عند الفوز بالأغلبية البرلمانية. كالعادة حزب العمال انتقد سوناك لأنه ليس منتخبا مباشرة من الناخبين مع أن ذلك لا تشوبه شائبة في الديمقراطية البرلمانية التي يحتفظ فيها حزب الأغلبية البرلمانية بحق تشكيل الحكومة. الأهم ليس انتقادات حزب العمال لسوناك ولكنه الدعوة التي يقودها الحزب والتي تنتشر بقوة لإجراء انتخابات عامة مبكرة بين الأحزاب الأخرى خصوصا حزب الديمقراطيين الأحرار والحزب القومي الأسكتلندي. وربما تنضم إليهما بمرور الوقت شخصيات من حزب المحافظين لا ترى في اختيار سوناك الصورة الأمثل التي يجب أن تكون عليها واجهة السياسة البريطانية في العالم خصوصا أن الهند تحتفل بأن أحد أبناء البنجاب أصبح الآن رئيسا للسلطة التنفيذية في دولة الإمبراطورية البريطانية التي كانت تحتل الهند وأن التاريخ دار دورته الكاملة ليضع الأمور في نصابها الصحيح. هذا الاتجاه إلى الضغط من أجل إجراء انتخابات عامة مبكرة بصرف النظر عن مدى وجاهته السياسية حتى إن لم يستند على أساس دستوري قد يلتقي مع تيار تفوق الرجل الأبيض الذي تمثله جماعات قومية متطرفة في بريطانيا وفي غيرها من البلدان الأوروبية وكذلك في الولاياتالمتحدة. هذا التيار لن يتحدث رسميا عن أن الرغبة في أن الدعوة للانتخابات العامة هي للتخلص من سوناك لكنه سيواصل الطعن في شرعيته بطرق غير مباشرة وسيواصل التحدي لسلطته خلال الأسابيع والأشهر المقبلة والاستمرار في الدعوة لإجراء انتخابات عامة جديدة. ولن ينجو رئيس الوزراء الجديد من الضغوط إلا إذا تمكن خلال فترة وجيزة من تقديم إجابات سريعة ومقبولة على الأسئلة القلقة بشأن أزمات الغلاء والطاقة والتمويل التي يعاني منها المواطن العادي. سوناك أمامه فرصة واحدة للنجاح هي أن يقلب مسار المؤشرات الاقتصادية السلبية بسرعة ليثبت لأغلبية الناخبين أنه جدير بالاستمرار في زعامة المحافظين ورئاسة الحكومة حتى موعد الانتخابات العامة المقبلة. وعليه في الوقت نفسه أن يوحد صفوف حزب المحافظين وراءه وأن يقدم رؤية تساعد على الحد من نفوذ التيار الانفصالي في أسكتلندا والتوصل إلى صيغة متوازنة لمشكلة إدارة الحدود بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي في أيرلندا.