كان الإمام ابن حبان أحد أوعية العلم الكبار، ومن أبرز علماء الحديث، ونبغ وصنف في شتى العلوم الشرعية والتاريخ واللغة والفلك، وتسبب الحسد والتعصب وقلة العلم في اتهامه بإنكار النبوة والكفر وتم التنكيل به ومطاردته وإخراجه من بلده وأهدر دمه حتى مات منبوذاً. وُلد محمد بن حبان بن أحمد بن حبان، وكنيته أبو حاتم، والمعروف بابن حبان، في مدينة بُست من أعمال سجستان في خراسان سنة 273ه، وطلب العلم بنفسه منذ الصغر بحفظ القرآن وتلقى دروسه الأولى في الفقه والأصول والكلام والحديث والتفسير، وارتحل طلبا للعلم والعلماء وسماع الحديث من شيوخه وأعلامه، إلى البصرة ومصر والموصل ونسا وجرجان وبغداد ودمشق ونيسابور وعسقلان، وبيت المقدس وطبرية وهراة، وغيرها من المدن، وقد بلغ مجموع شيوخه قرابة ألفي شيخ، كما ذكر في مقدمة كتابه «التقاسيم والأنواع» فقال: «لعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ من اسبيجاب إلى الإسكندرية». وذكر الحافظ أبو سعد الإدريسي انه تولى قضاء سمرقند زمانا، وجلس للتدريس ونشر الفقه والعلم بين الناس، وأقام مكتبة عامرة في داره لطلبة العلم، ومدرسة لتدريس العلوم الشرعية. مكانة كبيرة وبلغ ابن حبان مكانة كبيرة ومنزلة عالية في علم الحديث، وكان ممن يُشد إليه الرحال لسماع كتبه وأسانيده، وقد اعترف له معاصروه ومن جاء بعده بالعلم والفضل والتقدم، وصفه الذهبي بأنه: «صاحب همة»، وقال عنه أبو عبد الله الحاكم صاحب كتاب «المستدرك»: «كان ابن حبان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال، وقد أقام عندنا في نيسابور وبني الخانقاه -مثل المدرسة- وقرئ عليه جملة من مصنفاته ثم خرج إلى وطنه سجستان عام 340ه، وكانت الرحلة إليه لسماع كتبه»، وقال أبو سعد الإدريسي: «كان من فقهاء الدِّين وحفاظ الآثار عالما بالطب والنجوم وفنون العلم، وفقه الناس بسمرقند «، وقال عنه الخطيب البغدادي: «كان ابن حبان ثقة نبيلا فهما»، وقال ياقوت الحموي: «أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره، ومن تأمل تصانيفه تأمُّل منصفٍ، علم أن الرجل كان بحرا في العلوم» . وتتلمذ على يديه الكثيرون منهم أبو الحسن الدار قطني، وأبو عبد الله محمد بن المحدث المعروف بابن منده. وخلف ابن حبان الكثير من المصنفات في شتى العلوم ويغلب عليها التصنيف في الحديث والجرح والتعديل، لكن اغلبها فُقد بسبب انتشار الفتن والاضطرابات ونهب داره، ولم يبق منها سوى اليسير، أهمها كتاب «الأنواع والتقاسيم» الذي أطلق عليه أهل العلم اسم «المسند الصحيح»، و«التاريخ»، و«الضعفاء»، و«العلل»، و»مناقب الشافعي»، و»موقوف ما رفع»، و«الهداية»، و«المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين»، و«روضة العقلاء ونزهة الفضلاء». محنة قاسية وتعرض الإمام ابن حبان لمحنة قاسية كادت تودي بحياته وتقضي على تراثه وعلمه، ولقد حدث له أثناء إلقائه لأحد الدروس في نيسابور أن سُئل عن النبوة فقال: النبوة «العلم والعمل»، وكان يحضر مجلسَه بعضُ الوعاظ فقام إليه ونسب إليه إنكار النبوة واتهمه بالزندقة والقول بأن النبوة مكتسَبة، وارتفعت الأصوات في المجلس وهاج الناس بين مؤيد للتهمة وناف لها، وخاضوا في ترديد الأكاذيب والأباطيل عن علمه ومكانته، حتى كتب خصوم ابن حبان محضرا بالواقعة وحكموا عليه فيه بالزندقة ومنعوا الناس من الجلوس إليه، وهُجر الرجل بشدة، وبالغوا في إيذائه وتمادوا في ذلك حتى كتبوا في أمر قتله وهدر دمه إلى الخليفة العباسي وقتها، فكتب بالتحري عن الأمر وقتله إن ثبتت عليه التهمة، وبعد أخذ ورد اتضحت براءة ابن حبان ولكنهم أجبروه على الخروج من نيسابور إلى سجستان. وهناك وجد أن الأباطيل والاشاعات تطارده وتهمة الكفر ما زالت تلاحقه، وتصدى له يحيى بن عمار هناك وألب عليه العامة حتى طرده من سجستان، فاضطر ابن حبان إلى العودة لبلده «بست»، وظل بها حتى مات -رحمه الله- مهموما محزونا من الافتراءات وتهم الزندقة والإلحاد. خطورة التأويل وذهبت الدراسات العلمية المنصفة إلى أن الاتهامات التي وجهت للعلامة ابن حبان سببها الحقيقي سيادة روح التعصب والجهل، وبينت خطورة التأويل وتحميل الألفاظ والأقوال من أوجه الكلام ما لا تحتمله، حيث أخذ بعض المهووسين المتربصين كلمات قليلة قالها هذا الإمام وبدت غامضة وفوق إدراكهم وعلمهم، وأخرجوه من الملة واتهموه بالزيغ عن ضروب الحق والهداية، وحرضوا عليه الخليفة العباسي الذي كتب بقتله رغم انه كان من أعلم أهل عصره بالحديث، وحكم عليه بالزندقة بمقولات خاطئة، وكان بالإمكان فهم ما نسبوه إلى ابن حبان على وجه صحيح كما قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: «وهو أن أعظم صفات النبوة العلم بالله الكامل والعمل الصالح كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له». وقال العلماء الثقات إن مقولة «النبوة العلم والعمل» يقولها المسلم ويقولها الزنديق، يقولها المسلم ويقصد بها فهم النبوة، إذ من أكمل صفات النبي العلم والعمل، فما من نبي قط إلا وهو على أكمل حال من العلم والعمل، وليس كل من برز فيهما نبيا، لأن النبوة محض اصطفاء من الله عز وجل، لا حيلة للعبد في نيلها ولا اكتسابها. * ذهبت الدراسات العلمية المنصفة إلى أن الاتهامات التي وجهت للعلامة ابن حبان سببها الحقيقي سيادة روح التعصب والجهل، وبينت خطورة التأويل وتحميل الألفاظ والأقوال من أوجه الكلام ما لا تحتمله، حيث أخذ بعض المهووسين المتربصين كلمات قليلة قالها هذا الإمام وبدت غامضة وفوق إدراكهم وعلمهم، وأخرجوه من الملة واتهموه بالزيغ عن ضروب الحق والهداية.