مركز للإشعاع العلمي والحضاري عبر العصور نظمت زاوية الهامل بالمسيلة، بمناسبة المولد النبوي الشريف عدة نشاطات دينية وثقافية وشعبية بالتعاون مع بلدية الهامل والجمعيات المحلية ومختلف الزوايا ومساجد المنطقة، حيث انطلقت المدائح الدينية وكذا أناشيد والقصائد الدينية وبخاصة _البردة_ تحت إشراف شيخ الزاوية والمدارس القرآنية بالهامل، ولا تزال هذه الاحتفالية بالمولد النبوي الشريف في الهامل محافظة على أصالتها بفضل إسهام المواطنين الذين يشاركون سنويا في هذه الاحتفالات من خلال استقبال وإيواء الزائرين كما درجت عليه العادة في هذه المنطقة من الوطن· وتمثل هذه المناسبة فرصة لتحضير أطباق من (العياد) أو الكسكسي المزين باللحم والخضر خلال هذه الأمسية تعبيرا عن الترحيب والمشاركة، وتحضيرا لهذه المناسبة يتم دهن واجهات المنازل والمساجد وزاوية الهامل، وبعد صلاة العصر مباشرة يكون هنالك تجمع كبير للمصلين وأتباع زاوية الهامل أمام مقر الزواية مرددين مدائح وأناشيد دينية كما جرت عليه العادة، ويردد المشاركون طوال السهرة أدعية وقصائد دينية لمدح المصطفى صلى الله عليه وسلم· صرح حضاري ومركز للإشعاع الديني تعد زاوية الهامل من المعالم الحضارية والصروح الثقافية التي تزخر بها بلادنا وولاية المسيلة على وجه الخصوص، التي يحق لها أن تفتخر وتتباهى بها، فهي من المؤسسات العلمية التي أنشئت في منتصف القرن التاسع عشر، وأدت دورا هاما وأساسيا في المحافظة على أصالة وقيم هذا الشعب الدينية والروحية والثقافية، وذلك بفضل ما تنشره وما تقدمه من أمور مختلفة في شتى الميادين، حيث اعترف بدورها العدو قبل الصديق حيث قال عنها الباحث الفرنسي الكبير الأستاذ جاك بيرك: (إن تاريخ زاوية الهامل يهم تاريخ المغرب بأسره، من حيث المجهود الذي بذلته بكل عزم في زمن الاستعمار، وذلك باستنهاض القيم الروحية والاجتماعية التي تقوم مقام ملجأ للناس)· تقع هذه الزاوية المباركة المجاهدة على بعد حوالي 250كم جنوبالجزائر العاصمة بالقرب من مدينة بوسعادة المدينة السياحية المعروفة، وب130كم عن الولاية الأم المسيلة، حيث تقع في بلدية صغيرة تعج بنخبة من المثقفين والشعراء التي أنجبتهم البلدة على غرار الشاعر الكبير أحمد عبد الكريم ونخبة أخرى أسسها الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي، وهو من كبار رجالات التصوف والعلم بالجزائر في منتصف القرن التاسع عشر، في ظروف صعبة بعد التشديد على المدارس القرآنية والزوايا والضغط عليها من طرف السلطات الاستعمارية آنذاك، حيث لم تسمح بإنشاء هذا النوع من المؤسسات الذي تفطنت السلطات الاستعمارية لخطره، وذلك بفضل ما تنشره من وعي وتنوير للعقول مستمد من القرآن والسنة النبوية الشريفة، حيث وبعد مشاركة الزوايا والطرق الصوفية في معظم الثورات التي قامت ضد المحتل الأجنبي وبالضبط المستعمر الفرنسي نجد أن معظم الثورات الشعبية كان قادتها هم شيوخ زوايا وزعماء طرق صوفية، فهناك الشيخ الأمير عبد القادر، بوشوشة، الشريف بوبغلة 1850م، الصادق بن الحاج المصمودي 1859، الشيخ الحداد 1871...· وبالرجوع إلى كتابات الفرنسيين أنفسهم عبر التاريخ يتجلى لنا دور الزاوية المهم فيتكلم أوغسطين بيرك عن (تطرف الرحمانية التي تسببت في كل الثورات)، ويرى أن (سلطان الطرق الصوفية يغذي دائما التطرف ضد المحتل لدى أتباعهم)· ويرى أيضا أن نجاح الأمير عبد القادر في التفاف المجاهدين حوله راجع إلى أنه ابن طريقة دينية استطاعت التأثير على عقول الناس وأن تجذبهم وهي حقيقة تنكر لها كثير من الباحثين أو حاولوا على الأقل تجاهلها وتناسيها، وفي تصريح الضابط الفرنسي دي نوفو: (إن إخوان بن عبد الرحمن يظهرون دائما تعصبا إنهم متعصبون جدا إنهم أكثر ابتعادا عن الفرنسيين من بقية الطرق الأخرى)· والمحتل الفرنسي لم تكن لتغيب عنه مثل هذه الحقائق ولم يكن من البلاهة أو السذاجة لكي يأمن جانبهم أو يتعامل معهم على أنهم أصدقاء، حيث مارست السلطات الاستعمارية عليهم نوعا من الخناق والرقابة بحيث منعتهم من التواصل المباشر مع المواطنين وذلك بغرض التقليل من تأثيرهم عليهم، ولا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نتجاهل مثل هذه الحقائق، إذا أردنا جليا أن نفهم تاريخنا بشكل صحيح، وبالعودة إلى تاريخ زاوية الهامل الكبير، فقد أدت عديد الأدوار في تاريخ هذا الشعب المقاوم، منها ما هو علمي، ديني، ثقافي، اجتماعي، واقتصادي، وامتد إلى أكثر من ذلك بل استطاعت الزاوية وبفضل تأثيرها القوي أن تفك العديد من النزاعات والرعونات الشعبية، حتى أنه يذكر رواد التاريخ أن الأمير عبد القادر بعث برسالتين إلى شيخ الزاوية يحثه فيها على مواصلة نشر العلم عبر مختلف أصقاع العالم والدعاء أيضا لسائر المؤمنين بالنجاح والمضي قدما في خدمة العلم ورفع رايته، وما تزال الزاوية تحتفظ بأحد مسدسات الأمير إلى يومنا هذا، حيث ومنذ نشأتها سنة 1862 وإلى غاية الاستقلال اليوم استطاعت الزاوية الهاملية بحق أن تضع لبنة أساسية لتواجدها منذ نشأتها سنة 1862 إلى غاية الاستقلال، مواكبة للتطورات، وحريصة على المشاركة في الحياة الاجتماعية، والمساهمة في الفعل الحضاري، والمحافظة على العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة عبر الزمن· مجهودات جبارة خدمة للعلم والدين عملت الزاوية القاسمية على نشر القرآن حيث تخرجت منها أعداد هائلة من حفظة القرآن الكريم من معظم نواحي القطر الجزائري، وبالعودة إلى التاريخ وبالضبط للفترة الاستعمارية، نجد تقريرا للسلطات الفرنسية، أن عدد الطلبة الذين يتخرجون سنويا من الزاوية يتراوح ما بين 200 و 300 طالب، وهو عدد لا يستهان به مقارنة بالظروف المحيطة آنذاك، حيث كان يدرسهم حوالي 19 أستاذا، منهم الشيخ إدريس، عاشور، محمد بن عبد الرحمن الديسي، محمد بن الحاج محمد...·الخ، أما طريقة تدريس القرآن وتحفيظه، فهي الطريقة المعروفة في كامل المغرب العربي، بواسطة اللوحة، وهي قطعة من الخشب صغيرة، حجرة الصلصال تمحى بها اللوحة عند حفظ الآيات المكتوبة، الصمغ: المصنوع من الصوف التقليدي والحبر، القلم: وهو مصنوع من القصب المحلي الموجود على ضفاف الوادي، بعدها ينتقل الطالب إلى تلقي مختلف العلوم الشرعية، فيمكن له الالتحاق بحلقة الفقه أو اللغة أو التفسير طبعا مع احترام البرامج والنظام المطبق داخل الزاوية· وهناك مستويات للأخذ والتلقي: مستوى أول، مستوى ثاني، مستوى أعلى أما عن تعداد الطلبة الذين كانوا يزاولون دراستهم في حفظ القرآن بالزاوية، فقد جاء في رسالة لسيدي محمد قدر فيها عدد الطلبة في نهاية القرن بحوالي ألف طالب، وذكر بذلك أنها تضم عددا أكبر من عدد طلبة جامع الزيتونة بتونس وجامع القرويين بفاس وحتى الأزهر نفسه· إصدارات مهمة أما في جانب الإصدارات الكتبية فالزاوية استطاعت وعلى مر العصور أن تثبت وجودها في هذا المجال وذلك بالرغم من قلة الإمكانيات المتاحة لها، حيث طبعت في القديم أكثر من 10مخطوطات باليد وبخط الحرف المطبعين، هذا بالإضافة إلى مجموعة من الجرائد والمجلات القديمة والتي صدرت في القرن ال19م، حيث كان أغلبها يصدر من المغرب العربي، وتحتفظ الزاوية بوثائق ورسائل تزيد عن ال500 وثيقة جلها مكتوبة من أعلام أهل العلم الذين توافدوا ودرسوا بالزاوية وفي هذا الصدد تم طبع عديد الكتب نذكر منها: المنح الربانية للقسنطيني الذي طبع في تونس سنة 1890، وكتاب الزهر الباسم للقاسمي، وهو أيضا مطبوع في تونس سنة1891، كما ساهمت الزاوية وعلماؤها في طبع ونشر بعض الكتب الأخرى منها، نوهين المتين للديسي، البستان في ذكر علماء تلمسان، ومنار الاستشراف للخنقي، وترتيب المدارك للقاضي عياض، أما فيما يتعلق بإصدارات دار الخليل القاسمي فنجد ورد الطريقة الرحمانية نشرح أبيات ابن عربي، الإرشاد للثعالبي، شرح سينية لابن باديس، وفتح المولى لابن فكون· بوسعادة في كنف السكينة والروحانية يشعر الزائر لمدينة بوسعادة (422 كلم جنوبالجزائر) بالسكينة والطمأنينة وهو يعانق هذه المنطقة العريقة التي لُقبت قديما ب(بوابة السعادة)، وكلما يتوغل المرء في جنبات بوسعادة ويغوص في أعماقها يتلمس ينابيع التراث وشموخ الأصالة، ما جعل (جوهرة الصحراء) كما يحلو للكثيرين تسميتها، تتحول منذ زمن بعيد إلى قبلة للسياح ومحج للفنانين الذين انبهروا لثراء المنطقة وتقاليدها وما تختزنه من تميّز في في المعالم والأزياء من البرنوس والقندورة والحلي الفضية وصولا إلى الأواني النحاسية والفخارية والطوبية أيضا، لكن الشيء الجميل الذي جعل بوسعادة تلبس أبهى حلة هو تواجد هذه الزاوية العريقة بتاريخها العلمي الكبير، حيث استطاعت أن تستقطب أنظار العالم بأسره، من مختلف الجنسيات حيث يزور الزاوية في كل سنة أكثر من 500 زائر ومن جنسيات مختلفة عربية وغربية· وأنت تتأهب للدخول إلى مدينة السعادة، تلمح الجبل العتيق (كردادة) وهو يعتلي المدينة حتى يخيل للمرء أنّ هذه القمة الجبلية الشاهقة تسهر على حماية هذه الجوهرة العلمية الكبيرة من هول الزمن، وما يلبث الداخل إلى هذه البلدة الصغيرة أن يشعر بهدوء الصحراء في هذا المكان، فأحياء ومسالك مكللة بالربوات والتلال والكثبان الرملية تزينها أشجار الصفصاف من جانب وتعطرها رائحة النباتات الطبيعية كالديس والشيح والعرعار من الضفة الأخرى، وتبرز هذه الزاوية العتيقة لأول وهلة بخصوصية طابعها المعماري الأصيل والمميز، فحاراتها ذات اللون البني والأصفر والذي يعبر عن طابع البلدة الصحراوي الرائع المشيد سوى بالطوب والعرعار والخشب منذ قرون ومازالت تكافح الزمن لحد الساعة· كما شكّلت الزاوية مزارا دائما للسواح والكتاب والفنانين، ويقول أعيان بوسعادة أنّ زاوية الهامل التي لا تبعد سوى بحوالي 14 كيلومترا عن وسط المدينة، زادت المنطقة شهرة كونها منارة للعلم والدين والفقه، فقد شيدت سنة 1845 على يد العلامة الراحل (سيدي محمد بن بلقاسم القاسمي)، وعُرفت هذه الزاوية بالدعوة الدائمة إلى تحصيل العلوم والدين والفقه، فتخرجت منها أجيال من المثقفين وعلماء الدين والإطارات والأئمة ورجال الفقه، وعملت هذه الزاوية التي تتبع الطريقة الرحمانية على نصرة مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة (الأمير عبد القادر) ودعمته في الحرب ضد المحتل الفرنسي، مثلما أيدت وساندت فرسان المقاومة على غرار الشيخ المقراني والشيخ الحداد وغيرهما· وما زاد زاوية الهامل أبهة وهيبة، عمل القائمين عليها منذ سنوات طويلة على إصلاح ذات البين بين مختلف القبائل المتناحرة وتسوية الخلافات بين العشائر إبان الحقبة الاستعمارية بالطرق السلمية، وقد توسعت أنشطة الزاوية وباتت تحتضن آلاف الكتب والمخطوطات التاريخية يعود بعضها إلى 740 سنة خلت-، وتشمل مختلف ضروب العلم والمعرفة من العلوم الطبيعية والعلوم الدقيقة كالفيزياء والكيمياء والرياضيات، وصولا إلى علوم الدين والشريعة الإسلامية وحفظ القرآن الكريم وتفسيره ما زاد في إقبال طلبة العلم عليها من شتى أرجاء البلاد·