العلم موطنه العقل البشري فلا تحده أماكن ولا تحصره أزمنة، والإنسان مفكر بطبعه وكثيرا ما نقف في حالة حيرة واندهاش وسط مكان لا زرع فيه ولا ضرع، ونجده أثمر فكرا عذب الري وافر الظل، وإذا نظرنا إلى الأماكن نجد أن معظم الأنبياء هم أبناء الفيافي والجبال، وأن البداية دائما تبتدئ من مكان فارغ كما الشمس حينما تنبت من ظلام، قرية الديس هي إحدى قرى بوسعادة الشمالية تبعد عنها ببضع كيلومترات، منطقة ليست بالزراعية الخصبة ولا أيضا بالسهبية الرعوية، بل هي احتضار الشمال في حجر الجنوب، ولكن تبقى قرية الديس المكان الذي تلون بلون الصحراء الحار الأجرد، والجبل البارد الأسرد، وفي هذه القرية التي أنجبت العلماء، ولد العالم الجليل الشيخ محمد بن عبد الرحمان الديسي. الديس قرية الأولياء الصالحين التي تشكل محطة من محطات الخط الواصل بين الزوايا من منطقة جرجرة منبع الطريقة الرحمانية الخلوتية إلى منطقة بوسعادة موطن سيدي ثامر الولي الصالح والفنان المبدع إتيان دنيه، وموطن الشعراء بل بستانهم المفضل ودوحهم المغدق بالماء والظل والشعر والغناء، ومنها إلى منارة العلم الهامل التي تخرج منها العلماء العاملون ومنهم سيدي محمد بن عبد الرحمان اليسي. ولد محمد بن عبد الرحمان سنة 1854 يتيما بقرية الديس، إلا أن أمه وجدّته أكدتا نظرية وراء كل عظيم امرأة، وكانت وراء الديسي امرأتان، فتحت رعاية الأم والجدة ترعرع، وكبقية أطفال القرية دخل الكتاب وهو ابن أربع سنوات، ولما وصل إلى سورة الجن حسب بعض الروايات أصيب بمرض الجدري فأفقده بصره، لكنه لم يفقده بصيرته فأكرمه الله بحفظ القرآن الكريم بالقراءات السبع، وأتقن أحكامه على كبار علماء الديس، وبعد حفظه للقرآن الكريم التحق بالولي الصالح الشيخ سيدي أبي القاسم بن سيدي ابراهيم والد الشيخ الحفناوي مفتي المالكية بالجزائر، فأخذ عنه المبادئ العلمية، ولما تحصل على حفظ القرآن رواية ودراية انتقل من قريته الديس إلى منطقة القبائل والتحق بزاوية الشيخ السعيد بن أبي داود، حيث تلقى العلم وأخذ عن مشايخها الفقه والنحو والتوحيد والفلك، ومنها ذهب إلى قسنطينة وجلس إلى دروس الشيخ حمدان الونيسي، ثم رجع إلى الديس ولم ينقطع عن العلم، حيث عكف على حفظ المتون فحفظ ما يربو على خمسين متنا. وبعد أن أخذ الكثير من العلوم في قريته الديس ثم في زاوية الشيخ سعيد بن أبي داود وتحصل على المزيد من العلوم والمعارف في الحلقات التي كان يجلس إليها حلقات الشيخ حمدان الونيسي بقسنطينة، وبعد اطلاعه على أمهات الكتب وحفظ المتون، شد الرحال إلى زاوية الشيخ محمد بن أبي القاسم الهاملي، وذلك سنة 1296ه 1878م وكان عمره حينها 24 سنة، فتتلمذ على يد الشيخ محمد بن أبي القاسم علوم التفسير والحديث والتصوف وبعض علوم العربية، ولقنه الشيخ الأوراد واستبقاه عنده في الزاوية لما لمس منه النبوغ والذكاء والعلم الواسع، وجعله من ركائز الزاوية العلمية لتقديم الدروس لطلبة الزاوية وإفادتهم. كان الشيخ محمد بن عبد الرحمان الديسي علاّمة من علماء الجزائر المتبحرين في علوم الدين والأدب والتصوف والمعقول والمنقول، كان حاد الذكاء قوي الذاكرة سريع الحفظ حجة في علوم عصره. تتلمذ عن الشيخ محمد بن عبد الرحمان الديسي مشايخ كبار وتخرجوا على يديه، منهم الشيخ المكي والشيخ بن عزوز القاسمي الحسني والشيخ عبد الرحمان بن البيض والشيخ محمد بن الأخضر لأحسني. عبد الرحمان الديسي ترك مؤلفات علمية وأدبية من بينها "فوز الغانم في شرح قصيدة الإمام محمد بن أبي القاسم " و"الزهرة المتقطفة بشرح القهوة المرتشفة في النحو" و"الموجز المفيد في علم التوحيد" وديوان شعر. كان رحمه الله قرآنيا سنيا صوفيا زاهدا، وأحد أقطاب الطريقة الرحمانية التي أخذها عن شيخه محمد بن أبي القاسم الهاملي البوزيدي الحسني. انتقل إلى جوار ربه في 22 من شهر ذي الحجة سنة 1339من الهجرة النبوية الشريفة. سيرة هذا العالم الجليل لو لقيت العناية والرعاية من ذوي الاختصاص والخبرة لتحولت إلى عمل فني، خصوصا وأن فيها من التشويق وتحدي الصعاب والمخاطر وكل ما يرافق حياة العلماء، حيث نشأ يتيما ثم ابتلاه الله بفقدان البصر ورغم ذلك وبإرادة صلبة واصل مشواره العلمي وتنقل من مكان إلى مكان في طلبه حتى أصبح من كبار شيوخ زاوية الهامل، وتخرج على يديه كبار مشايخها ، رحم الله شيخنا محمد بن عبد الرحمان الديسي.