شاع في المدينة نبأ هجرة النبي (صلى الله عليه وسلم) من مكة وطفق الناس منذ ذلك اليوم يترقبون وصول النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وقد سبقه إليها جل أصحابه اللهم إلا من غلب على أمره فحبسته قريش فلم يحر منها فكاكا ً. امتلأت المدينة إسلاماً وعبقت أجواؤها بأريج الإيمان وقد فتحت بالدعوة وتحول شعبها إلا قليل ممن بقي على الشرك إلى الإيمان اللهم إلا قبائل يهود الثلاث بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. كان الناس يخرجون كل صباح يمدون إبصارهم إلى الأفاق.. وربما تسور بعضهم حائطه أو اعتلى قمم التخيل يرقب مقدم الرسول الأعظم تتعاورهم مشاعر الشوق والترقب ممزوجة بهواجس القلق والخشية أن يصيبه في طريقه مكروه أو يصده عنهم صاد. فإذا اشتد الحر وآيسوا أن يحل عليهم يومهم هذا انقلبوا إلى دورهم وقد تواعدوا الغد. الكل يرتقب ولكن بمشاعر متباينة، فالمؤمنون الذين لم يكن يخلوا منهم بيت في المدينة سواء من الأوس أو الخزرج يحذوهم الأمل في غد أفضل في كنف نبيهم. نبي آخر الزمان غد قريب في الدنيا يحل فيه السلام محل الحرب التي فرقت شمل الأوس والخزرج ومزقتهم أشلاءً وأعنتهم حتى أتت على أموالهم أو كادت فتربت أيديهم ورق حالهم وأنهكت قواهم، وهم في الأصل قربة واحدة. وقد أدرك عقلاؤهم مغبتها وسوء عواقبها فتمنوا لو يجدون عنها محيصا وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم طوق النجاة من أنوائها، وهو ما عبر عنه الستة نفر من الخزرج الذين لقيهم النبي (صلى الله عليه وسلم) في موسم الحج بمكة من العام العاشر لبعثته فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه إلى دعوته وقالوا له: (إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك). (1) وأمل في غد بعيد أو لعله الأقرب، حين يرث الله الأرض ومن عليها فينعمون بما أعد الله للمؤمنين في الجنة. فلا ريب أنه نبي آخر الزمان الذي حدثتهم عنه يهود المدينة وتوعدتهم به. أما من بقي على الشرك من الأوس والخزرج فلم يكونوا من القوة التي تكفل لهم شن حرب سافرة على النبي (صلى الله عليه وسلم) ومن معه مع انتفاء الحوافز لتلك الحرب، فلا مكان لهم أو سيادة بين العرب اكتسبوها من سدانتهم للأوثان وزعامتهم الدينية كما كان لقريش. فمكثوا يترقبون ما سيكون بعد وصول الرجل إليهم، ولم يلبثوا أن دخلوا في الإسلام بعد ذلك. إلا فئة منهم أظهرت الإسلام راغمة وأبطنت الكفر وراحت مع يهود يدسون ويتآمرون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي سيد الخزرج الذي أوشك أن يتوج ملكا على المدينة لولا مقدم الرسول الأعظم النبي (صلى الله عليه وسلم)، فكان في عينه سالب ملكه فنقم عليه ولكن لم تكن له طاقة بمدافعته في ساح الوغى فخاض الحرب سرا ً في كهوف الدس وجحور الكيد وأوكار الخيانة معينا لليهود ومستعينا بهم. أما يهود فمكثت تترقب وصول الرجل، وهي تعلم أنه قد أطل زمان نبي آخر الزمان وقد كانت ترجو أن يكون من بينهم. وعلى أي حال فعندهم نعته وصفته وإن هي إلا أيام ويحل بينهم فيرون إن كان الذي عرفوا أم دعي كذاب. مشهود لم تر طيبة مثله خرج المؤمنون في يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول كعادتهم صبيحة كل يوم منذ أن علموا بمخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى مشارف المدينة يرتقبون حتى قالت عليهم الشمس فما ردهم إلى دورهم إلا حر الظهيرة( فلما أووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه.. فبصر برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب.. فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح) (2). وخرجت المدينة عن بكرة أبيها في يوم مشهود لم تر طيبة مثله في تاريخها قط.(وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله فتغشاه الوحي ونزل عليه (3) (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير) الآية 66/4 ولم تزل الآفاق تردد أصداء أنشودة الحب التي رددتها بتلقائية بنات الأنصار وأطفالهم فرحاً وسروراً بمقدم الفاتح العظيم. أِشرق البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع أفشوا السلام... أول ما سمع من النبي المهاجر: - وخرجت يهود تستطلع الأمر وكان ممن خرج منهم سيدهم وحبرهم الأعظم عبد الله بن سلام يقول: (أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستثبته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: (أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام) (4). يقول الغزالي (إن أضواء الباطن تنضح على الوجه فتقرأ في أساريره آيات الطهر، فقد ذهب عبد الله بن سلام يستطلع أخبار الزعيم المهاجر فنظر إليه يحاول استكشاف حقيقته، فكان أول ما أطمأن إليه بعد التثبت من أحواله.. أن هذا ليس بكذاب، والملامح الخلقية لشخص ما لا تعرف بنظرة خاطفة ولكن الطابع المادي الذي يضفي على الروح الكبير كثيرا ما يكون عنوانا صادقا على ما وراءه) (5). إنه النور والضياء، نور الحق الذي يشع من القلب فيتخذ مظهرا ماديا ً تضيء له الكائنات من حوله. بيان السلام الأول يقول أنس: لما كان اليوم الذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم فيه المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا). (6) أنه بيان السلام الأول الذي يلقيه النبي (صلى الله عليه وسلم) على الناس (أفشوا السلام).... أعلنوه وانشروه واجعلوه عنوانا لقائكم وفاتحة حديثكم وعهد افتراقكم (وأطعموا الطعام)...... وهو سبيل من سبل تحقيق السلام حين يتكافل الناس فيحمل أهل الإيثار المعسر بينهم، والكل منهم، فتطيب النفوس، وتوأد الأحقاد، فلا يجد فقير على غني، وتذهب عن القلوب نيران الحسد إلى حيث ذهبت حرارة الجوع ويسكنها برد السلام. (وصلوا بالليل والناس نيام).... حتى تنخلع الدنيا من القلوب فتتجه لخالقها طامعة فيما عنده من نعيم الجنة فتهون عليها زخارف الدنيا ومتاعها فلا ترى فيها شيئا حقيقا أن تنازع الناس عليه أو تحارب دونه. (تدخلوا الجنة بسلام).... سلام في الدنيا، وسلام في الآخرة. إنها دعوة السلام يعلنها المبعوث رحمة للعالمين.. تخرج من قلب صادق، ولسان ليس من أخلاقه الختل أو المراوغة، فلا ينطق إلا بالصدق الذي تجهر به أسارير وجهه قبل أن يفيه به. الصدق الذي صدق به عبد الله بن سلام فأسلم لله تعالى وآمن بنبوة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، وشهد شهادة الحق. إعلان الحرب وإضمار العداوة:- لكن هذا النهج العقلاني القويم وذلك القلب الباحث عن الحق فلا يتردد عن اتباعه حيثما وجد ضالته لم يكن يمثل العقل العام أو النظر السائد لدى يهود بل كان عكس ذلك هو التوجه العام والخلق المترسخ لدى شعبهم وبخاصة وللأسف الشديد أحبارهم وعلماؤهم الذين هم أعرفهم بالحق وأعلمهم بالدين. تقول السيدة صفية بنت حيي أم المؤمنين (رضي الله عنها)، وقد كانت قبل إسلامها يهودية وابنة سيد يهود بني النضير حيي بن أخطب، فيما رواه عنها ابن إسحاق قالت:(كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل بقباء بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي، حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب، مغلسين قالت: فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس، قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، قالت: فهششت لهما كما كنت أصنع، فو الله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي، حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟، قال: عداوته والله ما بقيت) (7). يكاد يكون هذا هو الموقف الرسمي لليهود من النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن معلنا، فلم يبرأ منه سوى، نفر قليل منهم، عرفوا الحق فاتبعوه، أو بالأقل كفوا أيديهم عنه. وفي ذلك يقول الله فيهم: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وءاتينا عيسي بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون.... إلى آخر الآيات) البقرة الآيات من 86: 90 إنها النفوس التي لا خلاق لها وكل حظها من الأخلاق، الحسد، والحقد، الضغينة، والغدر، وإشاعة الشحناء، وخلق أجواء من عدم الاستقرار يتربحون منها، فقد أغروا العداوة والبغضاء بين الأوس والخزرج وكسبوا من حروبهم أموالا طائلة فأقرضوهم بالربا الفاحش ليشتروا سلاح الحرب وعدته وباعوا لهم السلاح فكانوا هم الرابح الوحيد من حروب الأوس والخزرج وتمحلوا الحيل ليسلبوا أموالهم: (.......ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل 0 ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) آل عمران _ الآية 75. زعموا أنهم أهل الكتاب الأول، ولا حظ لهم منه إلا ما حرفوه وكتبوه بأيديهم ليجعلوه شاهدا لمسلكهم الآثم ومؤيدا لانحرافاتهم. فتاجروا بالدين واستعانوا به على الفساد ولم يبق لهم منه سوى ما احترفوه من نفث وسحر ورقية، هذا إن صح نسبة ذلك إلى الدين فضلا عن أقاصيص يحكونها عن الخلق الأول والأمم الغابرة، وظنوا أنهم لمجرد كونهم من سبط إسرائيل عليه السلام فقد نالوا الخيرية كائنا بعد ذلك من العمل ما كان. لقد اتخذوا من نسبهم ودينهم مطية لبلوغ أحقر الغايات بأركس الوسائل وأخسها. ولم يكن موقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم بجديد عن مواقفهم مع أنبيائهم من قبل. فالذين عبدوا العجل بمجرد أن أولاهم موسى ظهره إلى ميقات ربه، وقالوا سمعنا وعصينا. والذين احتالوا على الله ليصطادوا في السبت المحرم عليهم. والذين ذبحوا يحيى ونشروا زكريا بالمنشار حتى شقوه نصفين، وأعانوا الرومان الوثنيين على المسيح عيسى ورموا أمه بالزنا، وسعوا في قتله لولا أن رفعه الله إليه، على أنبياء الله جميعا الصلاة والسلام، ليس بمستغرب أن يعادوا محمداً صلى الله عليه وسلم مهما علموا أنه على الحق وتثبتوا من ذلك، فهو ليس منهم بل من الأميين العرب الذين تحقرهم يهود وتستعلي عليهم. (فكان الذي حملهم على هذا هو حسدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود، طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب الشديد، وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها، ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى التي تربط البشرية جميعا. وهكذا عاش اليهود في عزلة، يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة، ويتربصون بالبشرية الدوائر، ويكنون للناس البغضاء ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتناً يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض، وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها الغنائم ويرووا بها أحقادهم التي لا تنطفئ، وهلاكاً يسلطونه على الناس، ويسلطه الناس عليهم. وهذا الشر كله إنما ينشأ من تلك الأثرة البغيضة: (بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) الآية _ البقرة 90. (8) هوامش (1) الرحيق المختوم _ صفي الرحمن المباركفوري ص 158. (2) صحيح البخاري 1/555 _ المباركفوري ص 202 (3) زاد المعاد. (4)(قال الألباني _ حديث صحيح أخرجه الترمذي (13/ 313) وابن ماجة (1/400-4001) والحاكم 3/13 وأحمد 5 /451 وقال الترمذي: حديث صحيح وقال الحاكم: صحيح علي شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كما قالا _ تعليق الألباني علي كتاب فقه السيرة للغزالي ص 180. (5) محمد الغزالي فقه السيرة ص 180 (6) المرجع السابق ص 181 (7) السيرة النبوية ابن هشام ج 1 ص 518، 519. (8) في ظلال القرآن سيد قطب