بقلم: عبد القادر حمداوي* يتذكر الشعب الجزائري ثورة أول نوفمبر العظيمة من كل سنة بذكرى اندلاعها، فهي ثورة مليون ونصف المليون شهيد بها استرجع من خلالها هويته ودينه ولغته.. لقد كانت هذه الثورة فريدة من نوعها، طويلة حزينة الأحداث بترك الملايين من اليتامى والثكالى والأرامل، كتبت أحداث هذه الثورة بدماء غزيرة، أريقت في ميادين المقاومة، وفي الجبال الوعرة، والقرى المنتشرة حيث كان الأحرار هناك يحاربون فرنسا حيث خاضوا معارك ضد الاحتلال الفرنسي. تضاعف عدد القوات الفرنسية في الجزائر عند بداية الثورة أكثر من خمسين ألف عسكري لكنها لم تستطع حماية نفسها فطلبت تعزيزات، حيث قام المجاهدون في أول نوفمبر أكثر من خمسين هجوما وسيطروا على منطقة الأوراس وازداد عدد القوات الفرنسية أكثر من 80 ألف وامتد لهيب الثورة إلى كل أنحاء الجزائر، وتم تنظيم جيش التحرير الوطني باستعداده لمقاومة فرنسا وكان استقلال الجزائر سنة 1962 قامت الدولة الجزائرية. واليوم نتذكر تاريخ الثورة التحريرية رغم أهميته، لابد من التدقيق والتمحيص فيها على أساس شهدات المجاهدين في هذه الفترة بالذات، ولابد من منهجية لكتابة التاريخ مع إحصاء المواقع والأحداث وغرس حب الوطن في نفوس أبنائنا. فالدور الذي قامت به منظمة المجاهدين التي تعمل جاهدة في تسجيل وقائع وأحداث الثورة التحريرية مع المجاهدين الذين لازالوا أحياء أطال الله في عمرهم. لقد سجل بعض المجاهدين الذين عايشوا الفترة بعرض دقيق تجارب المعارك والكمائن، وفي الوقت الذي نجد المصادر الهائلة التي لا يمكن الأخذ بكل ما تحمله من بيانات ومعلومات مغلوطة تخدم مصلحة الأجنبي. الدولة لابد أن تتدخل في كتابة التاريخ لقد أنجزت عدة دراسات ومذكرات ويوميات لشخصيات مهمة كان لها ضلع في الثورة التحريرية. وليطلع أبناؤنا في الثانويات والجامعات، نرى أنه على الدولة أن تتكفل بجمع التاريخ وكتابته إيجابيا لغرس الروح الوطنية وحب الوطن لدى الجيل الصاعد. كتابة الشهادات وتشجيع كتابة المذكرات لمعظم المجاهدين خاصة الذين لا يتقنون الكتابة والقراءة هي المهمة التي تقع على عاتق وزارة المجاهدين التي يجب أن تجند عددا من الأشخاص لكتابة شهادات المجاهدين. إننا لا ننكر أهمية صدور عدد كبير من المذكرات التي نعتبرها مادة خام تحتاج للمقارنة والتمحيص والغربلة حتى يستفيد منها الجميع مع استرجاع العديد من الوثائق السرية، وعليه يجب التعجيل باسترجاع المادة والوثائق لكتابة تاريخ الثورة التحريرية. ففرنسا لا يخدمها أن يعرف الجزائريون ما في الأرشيف الذي بأيديها، لأن ملف الأرشيف الذي يبقى في أيدي فرنسا ويوجد بحوزتها ونحن نطالب به يلقى رفضا قاطعا، هذا الرفض الحاقد يثير عدة نقاط استفهام لدى الجزائريين خاصة المختصين منهم في التاريخ. كيف يمكن تبرير هذا الرفض؟ لماذا تخفي فرنسا هذه الوثائق؟ هذه الأسئلة الكثيرة التي تبقى بدون أجوبة، أسئلة تحمل أكثر من جواب لأن بشاعة جرائم النازية والفاشية والجرائم التي اقترفتها في حق الشعب الجزائري الأعزل وإن فعلت وسمحت بفك الحصار المضروب على ذاكرة الجزائر، لأن جرائم فرنسا في الجزائر متعددة ومتنوعة مست جميع المجالات حيث أبادت ملايين الجزائريين منذ أن وطأت أقدامها المحتلة أرض الجزائر عام 1830 وعذبت مستعملة أبشع طرق التعذيب، وهجّرت واستعملت الجزائريين كفئران تجارب في رقّان، ونهبت ثروات الجزائر على مر السنين. إن أفدح غلطة ارتكبتها فرنسا في حق الشعوب التي استعبدتها واستغلتها بالقوة العسكرية هي محاربة الحضارة ذاتها وطمس كل الطرق والمعالم والسبل التي تؤدي إلى الحضارة، وكانت البداية بتخريب الإنسان من داخله بل بتدميره تدميرا شاملا ومحاولتها بناء على أنقاضه إنسانا مغلوبا مسلوبا لا حول له ولا قوة، إنسان يفقد ذاكرته حتى يصير لا يعرف من هو ولماذا يعيش على هذه الأرض. إن المتمعن في التواجد الفرنسي ببلادنا لابد أنه يخرج بنتائج أكثر من سلبية بل تتجاوز سقف الإجرام، فاحتلال الجزائر لم يكن ذا حملة علمية ثقافية، بل كانت حملة عسكرية يقودها الضباط والقادة الكبار، ولكن جنودها من اللصوص وقطاع الطرق ومن لهم سوابق في الإجرام، فتلك البشاعة المرتكبة في حق المدنيين والتمثيل حتى بالأموات من قطع سواعد النساء، وأصابعهن وآذانهن من أجل الأقراط، وغيرها من الحلي التي كانت تتزين بها المرأة الجزائرية، هذا مشهد من المشاهد، فالجزائر كانت غنية بثروتها وبالقصور البيضاء في قلب غابة خضراء تنبض بالأمن والاطمئنان والسلام، في أحضان هذه المدينة التي لبست البياض واغتسلت بالبحر وتعممت بالجبال، والقباب والمآذن وأسراب الحمام، وعشق أهلها العلم بكل فنونه وتفوقوا فيه. وما أكثر المناطق والنواحي التاريخية التي عانت الكثير من المأساة ومشاهد الدمار التي خلفها الاستعمار في نفوس السكان. لقد رست على شواطئ الجزائر بواخر محملة بالأسلحة والدمار، هذه العمليات الوحشية التي قتلت آلاف الجزائريين وشردت آخرين وحرقتهم ودفنتهم وهم أحياء، ومن جهة أخرى قامت القوات الفرنسية بإنشاء المحتشدات ومراكز التجمعات والمعتقلات وجمعت فيها الشعب الذي فاق 3 ملايين نسمه كلهم تقريبا من الأرياف، وجعلت المناطق الاستراتيجية مناطق محرمة، وذلك لمنع أي اتصال بين الشعب وجيش التحرير الوطني، وهي السياسة التي وصفتها فرنسا بتجفيف منابع الماء ليختنق السمك. ظلت سلطات الاحتلال تجمع الجزائريين في محتشدات وتحرق قراهم بدعوى أنهم يسكنون مناطق جغرافية وعرة لا تطقها فرنسا ك(زكار وونشريس وبومعد وجبال شريعة وجبال جرجرة وجيجل وجبال الأوراس) حيث دمرت قرى بأكملها وقتلت سكانها بطرق وحشية وانتقامية ولم تسلم حتى بعض المدن الصغيرة والضواحي من هذا الانتقام. اكتسبت الأسرة الجزائرية خلال الكفاح نوعا من التوعية في تلقين القيم الوطنية في نفوس أبنائها، وهي القيم التي تربى عليها أبناؤها وبقوا على هذا الحال محافظين عليها إلى يومنا هذا، شعارهم الذي كان ولا يزال المحافظة على الجزائر.. الجزائر قبل كل شيء، لقد استعمل الفدائيون واعتبروها بمثابة الوسيلة الحقيقة لنقل الرسائل وإرسال الأسلحة. فالكثير لا يعرف عن المعاناة والمحن والأهوال التي تحملها المجاهدون، لقد وجد الجيل الصاعد كل شيء جاهزا: الحرية، الاستقلال، التعليم، الرعاية الصحية والاجتماعية والعيش الكريم في ظل العلم الوطني والدولة الحرة المستقلة، وكلما رحل واحد من هؤلاء الأبطال صناع هذه الثورة رحلت معه أحداثه وذكرياته التي تعتبر جزءا أساسيا من تاريخ هذه الثروة وهذه البلاد وهذه الأمة الجزائرية المؤمنة والمجاهدة الصبورة. في الوقت الذي كان فيه الشعب الجزائري يقف مذهولا أمام ذلك الطريق المسدود التي وصلت إليه الحركة الوطنية نتيجة الانقسام الذي ضرب عمق هذا الشعب العظيم، ومن هذا الوضع المزري جاء نوفمبر 1954... وكأنه البركان العنيف الذي تفجر فجأة والذي حجب وراء تدفق شظايا حممه الملتهبة، واضعا حدا لذلك الوعي الوطني المأزوم ودافعا إلى ذلك المستوى الواقع الجديد. لقد شكل نوفمبر دعوة جديدة لوضع حد يزيد على أكثر من قرن وربع قرن من هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وعسكرية للمعمرين الأوروبيين (ما يقرب من مليون) وهو الذي تجاوز 9 ملايين، وفي الوقت الذي كان فيه المعمرون أي (المخربون على حد التعبير)، جاء نوفمبر وكأنه الرعد الذي دوى فجأة وسط تلك السماء الاستعمارية الهائلة أو الصافية. الأسرة هي المصدر الذي يكتسب منه الفرد مشاعره الانتمائية بما تمنحه من حب ورعاية ومكانة وأمن، وبلغة أخرى يمكن القول أن للأسرة دورا في زرع القيم الوطنية في نفوس الأبناء وتشكيل وضبط سلوكهم وهو الذي ظهر بشكل كبير خلال الحقبة الاستعمارية، لذلك لم تكن الأسرة تجد صعوبة في غرس قيم الوطنية في نفوس الأطفال، فمن الشباب من التحق دون تردد بصفوف الجبهة وهو متشبع بهذه القيم. لقد كانت لعبتنا آنذاك والدليل هو حمل العصى على أنها سلاح وتصويبها نحو العدو. لقد كنت أثناء حرب التحرير التي أمضيناها في القرية عند لقائنا مع المجاهدين وسكان القرى متى علموا بقدوم مجاهد سارعوا مخافة تسريب المعلومات ووصولها إلى العدو، كنا نتساءل كيف هو المجاهد ونحن معهم في كل حين؟ لقد تغذى هؤلاء الشباب بمبادئ ثورة نوفمبر بفضل الرجال الذين انضموا للكفاح المسلح، والأبطال الذين جاهدوا بكل ما أوتوا من قوة. وعن كيفية انتقال الروح الوطنية التي كانت تدب في الأسر المناضلة، كان الكبار يتحدثون مرارا عن ضرورة استرجاع الحرية المسلوبة.. إنها رغبة جامحة في استرجاع الحرية التي تسكن أرواحهم لا يأسرها حب الدنيا وحب شهواتها والمال كما هو اليوم، بل كان تقديم الغالي بالنفس والنفيس من أجل الدين والوطن، وبداية جديدة لكفاح الشعب الجزائري الذي لم يقف هذه المرة. وفي مثل هذا الجو بدأت الصحافة الفرنسية كلها على حد سواء تكشف، خاصة من خلال كتابات بعض المثقفين الفرنسيين المضادين للاستعمار، حقيقة نوفمبر وأبعاده، والحلول الموضوعية والممكنة لما جاء به، مطالبا وحاملا معه من تغييرات ومن حقائق جديدة وجذرية والمتمثلة أساسا في ضرورة رفع يد فرنسا الاستعمارية عن الجزائر مهما كلفها من ألم.