إنه فنانٌ عصامي لم يسبق له وأن درس بأي معهد أو مدرسة للفنون الجميلة، ولكن المتمعن في أعماله الفنية النادرة يشعر أنه لا يكاد يختلف عن المتخرجين في هذا النوع من المدارس، إن لم يفُقهم موهبة وإبداعاً ودقة في الإنجاز. اسمه هشام مازري، عمره 30 سنة، من ولاية تيندوف، وقد عرض بعض أعماله في ولاية بومرداس مؤخراً، وجلبت إليها انتباه الزوار. الفضول أم الإبداع ظهرت الموهبة الفنية للشاب مازري في سن الواحدة والعشرين، ودون مقدمات وجد الشابُّ نفسه منجذباً إلى مجموعة من التحف الفنية الصحراوية التي تفنّن في إبداعها فنانون من الصحراء الجزائرية الكبرى، وبوسائل بسيطة جدا وفي مقدمتها الرمل والغِراء والحطب والزجاج والبلاستيك (لقد استهوتني تحف فنانين تشكيليين من تيندوف وبوسعادة وبشار، كما جذبتني إبداعات الطوارق وصناعاتُهم التقليدية وبخاصة الجلدية منها، والرسوم الجميلة التي يزينونها بها، والتي تلاقي دوماً إقبالاً كبيراً من السياح الغربيين في الصحراء الجزائرية، فبدأت بدوري أتلمَّس طريقي في هذا الفن من خلال نحت أشكال عديدة من الرمل والحطب والبلاستيك المسترجَع، وهذه المواد موجودة بوفرة في الطبيعة ولا تكلف شيئاً، وهذا عاملٌ مشجع لأي فنان في بداياته، حتى وإن كان يعاني قلة ذات اليد). بدأ مازري ينحت من الرمل أشكالاً مختلفة تنتمي إلى البيئة الصحراوية، وفي مقدمتها الجِمال والنخيل والخيام والكثبان الرملية الساحرة وغيرها، وبمرور الوقت لم يعد أسهل عنده من نحت الجِمال والنخيل ومختلف الأشكال في أوقات قياسية وعرضها للجمهور بأسعار معقولة لا تتجاوز ال200 دينار جزائري للتحفة الواحدة. وأثناء عرض بعضها في بومرداس، كان العشرات يتهافتون يومياً على اقتنائها، يقول شاب جاء للاصطياف في البحر، وهو يقتني تمثالا صغيرا لجمل ونخلة (أعشق حياة الطوارق، ولذلك اشتريتُ هذه التحفة ولوحة ً لشخص طارقي يركب جملاً ويجوب الصحراء الكبرى، إنها مناظر رائعة). وعن كيفية نحت النخلة يقول مازري (إنها تعتمد على عود حطب صغير وأجزاء من قارورة بلاستيك مسترجَعة أنحتُ بها أغصانها وألوِّنها بالأخضر كأغصان النخيل ثم أدخلها في مجسم رملي وأثبِّتها بالغراء أو بالبلاستيك المذوّب). رسومٌ داخل زجاجات لم يكتفِ الشاب مازري بهذه الأشكال التي ربما رآها بسيطة ولا تتطلب كبيرَ جهد لانجازها، بل تعداها إلى فن آخر أصعب وأعقد بكثير (الفنان الحقيقي هو ذاك الذي لا يكتفي بالمألوف والمتداول وما يقدر على إنجازه أي فنان عادي؛ الفنان الناجح هو الذي يركب الصعب ويبحث عن التجديد والإبداع والتميز، وإذا لم تستطع التميُّز فلن تكون فناناً ناجحاً ولن يكون لانتاجاتك صدى كبير). ولأنه من هذا الصنف، قرر مازري خوض مجال فني صعب جدا وهو نحت أشكال وأجسام مختلفة.. داخل قوارير زجاجية شفافة. وحينما عرض بعضَها في معرض بومرداس، كان ذلك أكثر ما لفت انتباه الجمهور الذي أخذ يتحلق حولها ويسأل الفنانَ: كيف استطاع أن يرسم هذه الأشكال الدقيقة داخل زجاجات ضيقة؟ كيف تمكَّن من توزيع الرمل على مختلف أنحاء القارورة الزجاجية لتعطي في الأخير أشكالاً مختلفة كالكثبان الرملية والنخيل والخيم دون أن يمتزج الرمل ببعضه البعض وتفسد هذه الأشكال؟ ويجيب مازري: (المسألة ليست هينة، إنها تحتاج إلى الكثير من الهدوء والتركيز والأناة وعدم استعجال الانتهاء من العمل، هي رسومٌ وأشكال دقيقة جدا وأقل خطأ فيها يفسد العمل كله ليصبح دون قيمة، ولذلك فإن التركيز والدقة هما أساس نجاح هكذا أعمال). ويضيف (إنجاز أشكال عديدة بمادة الرمل داخل زجاجة ضيقة يحتاج إلى جهد كبير، وأدوات عديدة، فحينما أتمكن من إدخال جزء من الرمل إلى زاوية ما في الزجاجة ويتخذ شكلاً معيناً، أقوم بتثبيته عن طريق الماء والغراء حتى يثبت ويكف عن التداعي، فأتمكن من مواصلة العمل وإدخال كميات أخرى من الرمال عبر أنابيب دقيقة لتأخذ أشكالاً وأجساماً أخرى موازية لها، وأستعمل حواجزَ بلاستيكية رقيقة بينها مؤقتا للفصل بينها قبل تثبيتها، وأستمر بنفس الطريقة إلى أن أنتهي من ملء الزجاجة وتنويع الأشكال الرملية وألوانها ثم أثبِّتها بالماء والغراء لتتخذ شكلها النهائي دون أن تتعرض مختلف الأشكال الرملية المرسومة للتبعثر). والمتمعن في القوارير الزجاجية ومختلف الرسوم والأجسام الرملية المتراصّة داخلها، يلاحظ بوضوح مدى تنوع الألوان الرملية وثرائها وجاذبيتها؛ ففيها الأصفر الذهبي والرمادي والبني والأحمر القاني والأبيض وحتى الرمل الأخضر الفاتح والأزرق الذي فاجأ الجمهور لأنه لم يكن يعتقد أن هناك رمالاً ذات لون أزرق أو أخضر، لكن الفنان يؤكد أن كل ألوان الطبيعة موجودة بالرمال الجزائرية، وليس فقط الأصفر كما يعتقد عامَّة الناس خطأ، وهي متوفرة في أماكن معينة يرتادها الفنانون عادة للاغتراف منها. ويضيف مازري (لا شك أن نحت مختلف الأشكال الرملية داخل قوارير زجاجية هو أصعب أعمالي الفنية، ولكنها الأكثرُ جاذبية وجلباً للانتباه أيضاً، وهي تتطلب أكثر من 3 ساعات لملء قارورة صغيرة ونحو 10 ساعات لملء زجاجة كبيرة، وتكمن صعوبتُها أكثر في أن الخطأ فيها ممنوعٌ قطعاً ويُفسِد العملَ برمته ولو كان على وشك الانتهاء، لأن تصحيح الأخطاء وتعديل الأشكال داخل زجاجة ضيقة أمرٌ غير ممكن البتة). ويعرب مازري عن ارتياحه لبداية انتشار هذا النوع الدقيق من الفن في مناطق عديدة بالصحراء الجزائرية وبخاصة بشار المجاورة لولايته تيندوف، وكذا في مناطق الطوارق وهي تمنراست وأدرار وإليزي، حيث يستقطب رسم أشكال مختلفة خاصة بالبيئة الصحراية كالخيم والكثبان والجمال والرجل الطارقي وكذا جبال الهقار الشهيرة، الكثيرَ من السياح الأجانب الذين يقبلون على شرائها وأخذها معهم إلى بلدانهم كتذكارات ثمينة.