اليعقوبي أحد أشهر الرحالة والعلماء في القرن الثالث الهجري، حيث قام برحلاته العديدة وأسفاره البعيدة التي وصل فيها إلى الهند من جهة المشرق والمغرب ومصر من جهة المشرق، ومصنفاته أحد الروافد العلمية المهمة في معرفة البلدان والمدن ومعالم الحضارة الإسلامية. ولد أحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح، وكنيته ابن واضح والمعروف باليعقوبي، وأحمد الأخباري، ببغداد، ولم تذكر المصادر تاريخ مولده، وترعرع ونشأ في بيت علم وجاه، فجده كان من العلماء والأدباء ومن رجال السياسة وعينه الخليفة العباسي المنصور والياً لأرمينية ومصر، ووالده كان قائما على أعمال البريد بديوان الخلافة العباسية، وبدأ طريقه بحفظ القرآن الكريم، وتلقى دروسه الأولى في علوم اللغة والفقه والحديث والأنساب، وعكف منذ نعومة أظفاره على دراسة التاريخ وعلم الجغرافيا وأخبار البلدان، وأظهر براعة في الفلك والرياضيات، ورحل في حداثته إلى أرمينية في سنة 260 ه، وانتقل إلى خراسان وعمل في خدمة الدولة الطاهرية، ودخل الهند، وزار بلاد الشام وفلسطين، وبلاد المغرب، وسافر إلى الأندلس، ومصر. وحظي في أثناء إقامته بالشام ومصر باهتمام الدولة الطولونية وقد ساعده ذلك على إثراء معلوماته التاريخية والجغرافية. الكاتب العباسي عاد اليعقوبي إلى بغداد موطنه الأصلي بعد أن قام برحلاته الطويلة، وساعدته مكانته عند أمراء الأقاليم ومعارفه وخبرته العملية التي اكتسبها من الرحلات البعيدة والسفر في العمل بالدواوين في الدولة العباسية، حتى لقب بالكاتب العباسي، وذاع صيته بين طلاب العلم، وكرس وقته للكتابة والتصنيف، وكان من أوائل العلماء الذين اهتموا اهتماما بالغا بالجغرافيا البشرية، حيث دون كل مشاهداته التي حصل عليها من زياراته الكثيرة لمختلف المجتمعات في مؤلفاته بطريقة علمية تدل على طول باع ليس فقط في علم الجغرافيا والتاريخ ولكن أيضا في علمي الاجتماع والأدب. ولذا زخرت مصنفاته بأدق المعلومات التي استقاها من مصادرها الأصيلة، ونالت ثقة كبيرة لدى الباحثين والمتتبعين. وقامت شهرته على المؤلفات الفريدة التي خلفها وأهمها كتابه (كتاب البلدان) الذي اعتبر من أقدم وأقيم الكتب التي صنفت في موضوعه، ذكر فيه الأسفار التي قام بها والوظائف التي تقلدها في الدولة الطاهرية في خراسان والدولة الطولونية بمصر والشام، بالإضافة إلى المعلومات والبيانات القيمة التي اقتبسها وسجلها عن الأمصار والمدن والقبائل والاقتصاد وطرق المواصلات في عصره. وكان واضحا في وصفه للبلدان دقيقا في بيان طرقها ومسالكها وظهر ذلك في وصفه لطرق أسفاره، مثل وصفه للطريق من مصر إلى مكة وكذلك فعل في وصف الطرق إلى مدن مراكش المهمة ورحلته إلى ما وراء النهر وخصص جزءا كبيرا من كتابه لوصف كل من بغداد وسامراء والكوفة والبصرة وسُرّ من رأى، واستغرق في ذكر أبوابها، ودروبها، وخططها، وقطائعها، وقنوات مياهها، وآبارها، وأسماء مهندسيها. تاريخ اليعقوبي ويعتبر اليعقوبي مجددا في تقسيمه المناطق التي وضعها على أساس الولايات، وتوضيح طبيعتها الجغرافية، ووصف الظروف الطبيعية التي زارها كالجبال والسهول والأنهار. كما قدم وصفا طوبوغرافيا للمناطق والمدن التي زارها أيضا واعتبر من الأوائل الذين كتبوا في المناخ والجغرافيا الحضارية بما في ذلك أعمال الإنسان المتمثلة في هندسة الري والجداول وبناء الجسور والقناطر والنشاط الصناعي والآلات المستعملة والطواحين المائية، وصناعات الورق والصباغة والإمكانيات الاقتصادية للمناطق التي زارها. كما قدم معلومات وافية عن الولاة والأمراء الذين حكموا تلك الولايات والأجناس البشرية والمجتمعات التي زارها. واحتفى المستشرقون بهذا الكتاب وطبع في المكتبة الجغرافية وقام بنشره جاستون فييت بعد ترجمته إلى اللغة الفرنسية مع كثير من الشرح والتعليق، ومخطوطاته موجودة حاليا في مدينة ميونيخ بألمانيا. كما صنف (كتاب التاريخ) ويعرف بتاريخ اليعقوبي، وفيه تحدث عن تاريخ الشعوب ما قبل الإسلام وتاريخ الإسلام حتى سنة 258ه_-872م، وتميز الكتاب بالجمع بين القصص التاريخي والوصف الجغرافي، وتضمن التاريخ من آدم وحواء، وتاريخ الأنبياء، والممالك القديمة والأديان والأسواق والشعراء والخلفاء والحكام والأمراء، والحكماء والفلاسفة والمصنفات والحوادث كالمجاعات والأمراض والزلازل. ولليعقوبي أيضا كتاب (أخبار الأمم السابقة) ورسالة صغيرة بعنوان (مشاكلة الناس لزمانهم) قدم فيها أخباراً عن العالم قبل الإسلام. واعتبر اليعقوبي الرحالة الأول، ومعلما جغرافيا، والكثير من علماء الجغرافيا التالين لعصره أمثال ابن رستة وابن الفقيه والمسعودي وغيرهم كانوا يعتبرونه أستاذا لهم، وكانت جهوده أساساً للجغرافيا الحديثة التي ظهرت في القرن التاسع عشر. واختلف في تاريخ وفاته، فقد ذكر ياقوت أنها سنة 284ه، ورجح الزركلي في الأعلام أن وفاته كانت بعد سنة 292ه. * احتفى المستشرقون بكتاب اليعقوبي وطُبع في المكتبة الجغرافية وقام بنشره جاستون فييت بعد ترجمته إلى اللغة الفرنسية مع كثير من الشرح والتعليق، ومخطوطاته موجودة حاليا في مدينة ميونيخ بألمانيا.