العالم ابن فضلان أحد الرحالة العرب المعدودين في القرون الوسطى الذين زارو بلاد الغرب، وقام بأقدم رحلة سياسية ودعوية إلى شرق وشمال أوروبا. هو أحمد بن العباس بن راشد بن حماد، المعروف بابن فضلان، عاش في النصف الأول من القرن العاشر، وكان من موالي القائد العباسى محمد بن سليمان الحنفي، ومن المقربين من مجلسه لذكائه وحنكته السياسية وقدرته على النقاش المقنع، لذا كان يصحبه محمد بن سليمان في جميع لقاءاته الرسمية، حيث أهلته معارفه المتراكمة بالشعوب التي خالطها إلى الوصول إلى بلاط السلطان المقتدر بالله العباسي كرجل دولة وفقيه وعالم، واستمر في خدمة البلاط السلطاني حتى عام 921م، حينما وصلت رسالة قيصر البلغار _ألموش بن يلطوار_ طلبا لإرسال سفارة إلى القيصرية البلغارية لشرح مبادئ الإسلام، على أن يرسل الخليفة من يبني للقيصر مسجدا يطل من محرابه على شعبه، وقلعة حصينة لمجابهة هجمات الخزر عليهم من الجنوب، فاختاره الخليفة على رأس البعثة الدينية السياسية تقديرا لمكانته وقدرته على الحوار. خرجت البعثة من بغداد عاصمة الخلافة في 11 صفر 309ه-21 جوان 921م، بتكليف من الخليفة العباسي، المقتدر بالله، إلى قلب القارة الآسيوية في مكان عرف وقتها باسم أرض الصقالبة على أطراف نهر الفولغا، واتجهت البعثة شرقا بشمال مارا بإقليم الجبال ووصلت همذان والرى، وواصلت السير شرقا إلى نيسابور، وكان الطريق إليها محفوفا بالمخاطر خاصة في إقليم طبرستان، ثم ساروا إلى بخاري وكان الطريق إليها آمنا، واستقروا بها قرابة الشهر، وفيها قابل ابن فضلان الجيهاني الذي كان وزيرا لصاحب خراسان، وعادت القافلة إلى نهر جيحون الذي عبرته ثم سارت في النهر في سفينتين إلى خوارزم، وهناك حاول حاكمها منعهم من مواصلة السير بالتخويف من دخول أرض الغز، ولكنهم أصروا وواصلوا السير إلى الجرجانية واستقروا فيها حتى ينقضي الشتاء، ومع بداية مارس واصلوا السير، لكن بعد أن تخلف عنهم عدد من الفقهاء والمعلمين والغلمان إما خوفا من مخاطر السير بعد أن عاينوا قسوة الشتاء أو بسبب قلة الموارد المالية بعد أن تعذر استلامهم لمبلغ 4 آلاف دينار كانت مقررة لهم من الخليفة كخراج ضيعة قريبة من خوارزم حتى يتموا الرحلة. من بقوا مع ابن فضلان واصلوا السير فمروا عبر بلاد النهرين بحر آرال في الشرق وبحر الخزر في الغرب، كازاخستان حاليا، ثم واصلوا السير شمالا حتى بلغوا العاصمة البلغارية وقد قطعوا المسافة ما بين الجرجانية ومدينة البلغار في 70 يوما، حيث وصلوا في 18 محرم سنة 310 ه، ويمثل خط سير الرحلة بين بغداد والبلغار الذي استغرق 11 شهرا قيمة جغرافية لما اشتمل عليه من حقائق بنظام الرحلة في مناطق متباينة في ظروفها التضاريسية والمناخية وفي النظم السياسية والأهواء الدينية والأحوال العرقية مما يعكس صعوبة الرحلة. وذكرت المصادر أن ابن فضلان كتب ملاحظات سفر تعتبر أحد المصادر الفريدة لتاريخ الشعوب التي كانت تقطن أراضي روسيا، وهو يشكل سردا للحياة اليومية للاوغوز والبشكير والبلغار والروس القدماء والتتر. ولم يعرف خط سير الرجعة لضياع القسم الأخير من الرحلة، غير أن الباحثين رجحوا أن البعثة عادت أدراجها بنفس الترتيب والبعد الزمني لمراحل الطريق، أي تصل إلى الجرجانية أو خوارزم قبل حلول فصل الشتاء، ثم تمكث هناك حتى يبدأ الربيع فتعود إلى بغداد في أوائل الصيف عام 311 ه. وتعتبر وقائع رحلة ابن فضلان، كما دونها في رسالته إلى الخليفة، ووصف فيها بلاد الترك والبلغار والروس والخزر وأيضا البلاد الاسكندنافية، من أهم كتب الرحلات التي عرفها العالم. وتميزت كتابة ابن فضلان بدقة التفاصيل، والإيجاز والاختصار والبعد عن الحشو والتطويل وتحديد التواريخ والأيام علي طول خط السير، مما أتاح الفرصة لرسم مسار الطريق ومعرفة الفترات الزمنية التي قضاها في منازل الطريق مع تحليل طول بعض هذه الفترات، والوصف البارع والتسجيل لما يراه من ظواهر طبيعية وبشرية. وكان لها أثر كبير في كتابات الجغرافيين العرب، فقد قرأ الرحلة واعتمد عليها كل من الأصطخري، وابن رسته، والمسعودي، والجيهاني وغيرهم. كما نالت اهتمام المستشرقين والباحثين الغربيين، وذكر المستشرق الألماني (فراهن) في تقديمه لابن فضلان في اللغة الألمانية: (إذا كان الغرب قد أغفل روسيا فإن العرب تحدثوا عنها، فألقى العرب أنوارا كثيرة على تاريخ الغرب القديم، وأدلوا بمعلومات وخاصة عن البلغار وروسيا في العهد البعيد). ويعترف الغربيون بفضل الرحلة في تدوين اكتشافات حضارية نادرة، ويسطرون اسم ابن فضلان بحروف بارزة في تاريخ التواصل الحضاري بين الإسلام والآخر.