بقلم: الدكتور جيلالي بوبكر في إطار الاحتفال بالذكرى الخمسينية للاستقلال الوطني خلال السنة الجارية 2012 وبمناسبة الذكرى الثامنة والخمسين لاندلاع ثورتنا المجيدة المُظفرة، ذكرى أول نوفمبر المجيد العظيم، وإيمانا صادقا بدور وأهمية التاريخ في حياة الأمم والشعوب، فالتاريخ روح الأمة وذاكرتها، وأمة بدون تاريخ فهي من غير روح وفي حالة سُبات، وروح الأمة هويتها، وقوّة الأمة من قوّة هويتها وقوّة هوية الأمة من قوّة ذاكرتها التاريخية. ونظرا للدور الذي يلعبه الأرشيف في حفظ التاريخ الذي هو ذاكرة الأمة وروحها وفي الكشف عنه وسرد أحداثه ومجرياته والتعبير عن حقائقه، وبما أنّ البحث العلمي محرك التقدّم والازدهار في عصرنا، مما يقتضي التفتح على الغير المتقدم لضمان تواصل علمي وتقني في مستوى مطالب وحاجات الجزائر الحرّة المستقلة من العلم والتكنولوجيا والحضارة والعصرنة، وفي مستوى التحدّيات الراهنة، تحدّيات العولمة، وفي سياق التظاهرات العلمية التي تنظمها الجامعة الجزائرية في كل سنة تشرّفت جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف بتنظيم ملتقى دوليا بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية شعبة التاريخ حول أهمية الأرشيف في كتابة تاريخ الجزائر خلال يومي05 و06 نوفمبر الجاري. أشرف على افتتاح الملتقى السيد الأمين العام لولاية الشلف نيابة عن السيد الوالي، وبحضور قائد القطاع العسكري، وعدد من ممثلي الهيئات التنفيذية المحلية، وممثلي المجتمع المدني، وممثلي وسائل الإعلام المكتوب والسمعي البصري، وأساتذة وطلبة شعبة التاريخ، خاصة طلبة التكوين في الماستر وكان حضورهم متميزا وأبدوا تجاوبا كبيرا مع فعاليات الملتقى من بدايتها حتى نهايتها حرصا منهم على معرفة تاريخ وطنهم ودراسته بالاعتماد على الأرشيف بمختلف أنواعه وما أكثره، الأرشيف المادي والأرشيف المعنوي، الأرشيف المشفوه والأرشيف المكتوب، الأرشيف السياسي والأرشيف الاقتصادي والأرشيف العسكري وغيره. وفي التقديم العلمي الأكاديمي للملتقى تمّ التأكيد على أهمية الأرشيف بصفة عامة في كتابة التاريخ والأرشيف الوطني الجزائري بصفة خاصة في كتابة تاريخ الجزائر، خاصة وأنّ أرشيف الجزائر غزير وممتد في حقب الزمن الماضي، وبما أنّ أرشيف الجزائر في العهد العثماني موجود بتركيا، وأرشيف الحقبة الاستعمارية موجود بفرنسا، وموجود ببلدان أخرى شقيقة مثل مصر وتونس والمغرب، وصديقة مثل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، فمن حق الجزائر المعاصرة الحرّة المستقلة استرجاع أرشيفها بل صارت الحاجة ملحّة وشديدة إلى جمع الأرشيف الجزائري المتناثر عبر أصقاع العالم وحفظه واستغلاله أحسن استغلال، خاصة وأنّ العالم المعاصر عرف ويعرف تحولات كبيرة وعميقة في مختلف مجالات الحياة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية والإعلامية، تحوّلات من شأنها أن تدفع الأمم والشعوب باتجاه الانفتاح على التقدّم الذي يعرفه العصر والاستفادة منه مع تمسكها بماضيها وتاريخها وتراثها. أما بخصوص محاور الملتقى فهي ستة: الأرشيف في ظلّ التشريع الوطني والدولي، أهمية الأرشيف في كتابة التاريخ عامة وأهميته في كتابة تاريخ الجزائر خاصة، أدوات نقد الوثيقة الأرشيفية التاريخية، أرشيف تاريخ الجزائر عرض وتحليل ونقد واستشراف، الأرشيف المتخصص السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي جرد وإحصاء وتحليل ونقد، ومكانة الرواية الشفوية والمذكرات الشخصية في الكتابة التاريخية. وارتبط الملتقى بخمسة أهداف أساسية: الإسهام الجادّ والكافي في تحديد ودراسة أرشيف تاريخ الجزائر علميا وأكاديميا وحصر أماكن تواجده والحرص الشديد على استرجاعه بالوسائل والطرق التقليدية وبالوسائل والطرق التكنولوجية المعاصرة، فتح آفاق جديدة للباحث الأكاديمي الجزائري وغير الجزائري لاستغلال الأرشيف واستثماره بصورة أفضل، ضمان تنوع الرؤى والأطروحات من خلال المادة التاريخية التي تحتويها الوثيقة الأرشيفية ومن خلال البحث التاريخي ببعديه التحليلي والتركيبي وما يتضمنه كل بعد منهما، محاولة إضافة بصمات جديدة في البحث والكتابة التاريخيين، وإعطاء بعد إقليمي ودولي عالمي للدراسات التاريخية الجزائرية. عرف اليوم الأول من يومي الملتقى أربع جلسات واستمر العمل فيه حتى الساعة الثامنة مساء، ترأس الجلسة الأولى الأستاذ الدكتور بن يوسف تلمساني من جامعة الجزائر، ونشّطها الأستاذ الدكتور لحسن الزغيدي من جامعة الجزائر الذي عرض وناقش تجربة ودور المتحف الوطني للمجاهد في جمع أرشيف الثورة التحريرية الجزائرية، ووقف بالعرض والتحليل الدكتور كمال بوكرزازة من جامعة قسنطينة على مضامين الأرصدة الأرشيفية وأثرها في كتابة التاريخ وخصّ المراكز الولائية الجزائرية للأرشيف بالتحليل والنقد، كما قدّم الدكتور محمد درّاج من جامعة الجزائر بحثا حول الدفاتر المهمّة وأهميتها في كتابة تاريخ الفترة العثمانية وهي جزء مهم جدا من الأرشيف الجزائري العثماني، وكان آخر المتدخلين الأستاذ الدكتور عبد الحكيم الطّحاوي الذي تعرّض لأهمية الأرشيف المصري في كتابة تاريخ الثورة الجزائرية 1954-1962. أما الجلسة الثانية فترأسها الأستاذ الدكتور محمد القورصو ونشّطها الأستاذ ميشال أو (Michel HAU) من جامعة ستراسبورغ بفرنسا الذي قدّم عرضا معمقا حول حرب التحرير الجزائرية من منظور الطلبة الفرنسيين بين 1960 و1962 وبيّن مدى تأثير هذه الحرب في المجتمع الفرنسي عامة وفي الطلبة خاصة ومدى قدرتها على تغيير الكثير من المفاهيم في حياتهم عامة التي انتهت إلى التنديد بالاستعمار وبجرائمه وإضفاء الشرعية على حقّ الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال، وقدّم الأستاذ(Michel HAU) نفسه شخصيا على أنّه وثيقة أرشيفية حيّة عايشت الأحداث والمواقف. ومن جهته عرض الأستاذ كريستوف كالتر (Christoph KALTER) من ألمانيا مداخلة حول نهاية المركزية الأوربية حرب التحرير الجزائرية والعالم الثالث في ظل حركات الاستقلال الوطني والثورات التحريرية وبيّن تأثير هذه الحركات والثورات على شعوبها في الداخل وعلى الأمم الأخرى في الخارج. وكان آخر المتدخلين الأستاذة الدكتورة يحياوي مسعودة التي ركّزت في عرضها ومن خلال كتاباتها على دور المرأة الجزائرية في الثورة الجزائرية وما تعرّضت له من شقاء وبؤس وانتهاك لعرضها، فهي بحق مصدر من مصادر كتابة تاريخ الجزائر عامة وتاريخ الثورة الجزائرية التحريرية بصفة خاصة مؤكّدة على أهمية الرواية الشفوية في البحث التاريخي. أما الجلسة الثالثة ترأسها الدكتور كمال بوكرزازة وضمت العديد من المداخلات أبرزها مداخلة الدكتور أحمد أرسلان من تركيا وهو رئيس قسم التاريخ بجامعة اسطنبول التي انصبت على أهمية الأرشيف العثماني في كتابة تاريخ الجزائر الوثائق المتعلقة بالأمير عبد القادر الجزائري نموذجا قدّمها باللغة التركية وترجمها إلى العربية بأسلوب فوري مباشر الدكتور محمد درّاج المتخصص في اللّغة التركية. وقدّم الأستاذ الدكتور لحسن تاوشيخت من المغرب الشقيق متخصص في الأرشيف ورقة بحث حول الأرشيف وإشكالية التاريخ الراهن، وقف على حاجة المؤرخ في عصرنا إلى الأرشيف في عالم تشدّه الأصالة والمعاصرة في النظر والعمل، وأكد على ضرورة الجمع بين الأدوات المعرفية والمنهجية والمادية القديمة والحديثة في البحث التاريخي والكتابة التاريخية، ذلك لطبيعة المؤرخ والحادثة التاريخية والتأريخ. ولم تغب تونس الشقيقة عن موعد الشلف مع الأرشيف وأهميته في كتابة تاريخ الجزائر إذ مثّلها الدكتور إبراهيم محمد السعداوي الذي قدّم بحثا حول أرشيف الصدور بالشمال الغربي التونسي وكتابة تاريخ الجزائر، طرح وحلل وناقش مسائل عديدة تخص الموضوع تفاعل معها الحاضرون وبان ذلك في المناقشة التي أعقبت العروض وانتهت إلى التأكيد على حاجة المغرب العربي الكبير إلى الاهتمام بأرشيفه جمعا وصونا واستغلالا باستعمال تقنيات العصر المتطورة باستمرار. ونُظّم اليوم الثاني من يومي الملتقى بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية التي انتقل إليها المشاركون، وكان الحضور كثيفا، طلبة وأساتذة وكل من يعنيه أرشيف الجزائر وتاريخها، وكانت فعاليات هذا اليوم ثرية بالعروض والمناقشة والحوار، حيث شهد جلستين علميتين أطّرهما العديد من الأساتذة الباحثين من مختلف الجامعات الجزائرية، مثل جامعة الجزائر وجامعة وهران وجامعة تلمسان وجامعة قسنطينة وجامعة عنابة وجامعة معسكر وجامعة تيارت وجامعة غرداية وجامعة الأغواط وغيرها، ومما قدّمه الباحثون مداخلة الأستاذ الدكتور الغالي غربي حول الحملة الفرنسية على الجزائر من خلال أرشيف المصلحة التاريخية للجيش البري الفرنسي، ومداخلة الدكتورة يمينة شيكو حول كيفية تحليل ونقد الوثائق التاريخية، ومداخلة الدكتورة نظيرة شتوان حول تاريخ الثورة الجزائرية بين الوثيقة الأرشيفية والرؤية الشفوية، ومداخلة الأستاذة وهيبة قطوش حول صحيفة La Vigie algérienne مصدر مهم في كتابة تاريخ الجزائر، هذه المداخلات وعروض أخرى أثرى بها أصحابها أشغال اليوم الثاني، وبالموازاة عرف اليوم الثاني أشغال ثلاث ورشات هي الأخرى أطّرها عدد من الباحثين بعضهم متخصص في الأرشيف، وهي ورشة أرشيف تاريخ الجزائر وورشة الأرشيف المتخصص وورشة منهج وتقنيات نقد الوثيقة الأرشيفية التاريخية، تلا رؤساء الورشات تقاريرهم العلمية الأكاديمية بعد الانتهاء من مناقشة أشغال الجلسة الثانية. اختُتم الملتقى بعد التأكيد على عدد من التوصيات، أبرزها التنظيم الدوري لملتقى حول كتابة تاريخ الجزائر والأرشيف عنصر مهم في ذلك، إنشاء أجهزة علمية جامعية تهتم بجمع الأرشيف الجزائري في الداخل والخارج واستغلاله استغلالا جيدا، استخدام التكنولوجيا المعاصرة شبكة الإنترنيت وغيرها في جمع الأرشيف وحفظة وترميمه واستثماره، إرسال بعثات أكاديمية علمية إلى الجهات الخارجية المعنية بأرشيف الجزائر لنقل الأرشيف الجزائري بالتصوير، ضرورة استرجاع الجزائر لأرشيفها المتواجد بفرنسا والمتواجد بتركيا وبسائر بلدان العالم الشقيقة والصديقة، وفي غياب إستراتيجية فلسفية وسياسية وعلمية دقيقة ومحكمة للأرشيف الوطني الجزائري تُحدد بصورة تشريعية وقانونية المبادئ والمناهج والوسائل والأهداف التي من خلالها يتمّ التعاطي مع الأرشيف الوطني جمعا وحفظا وترميما واستغلالا، أوصى الملتقى بالتعاطي مع الأرشيف من خلال هذا التوجّه. وفي الأخير نلفت انتباه القارئ الكريم إلى أنّ السيد عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية الدكتور محمد صالح بوقشور رئيس الملتقى قد وعد بطبع ونشر أشغال الملتقى في كتاب يُوضع في مكتبات الجامعة الجزائرية ليستفيد منه الطالب والباحث وكل من يعنيه الأرشيف الجزائري وتعنيه كتابة تاريخ الجزائر العزيزة.