للنصيحة شأن عظيم في حياة الفرد والأمة على حد سواء، فهي أساس بناء الأمة، وهي السياج الواقي من الفرقة والتنازع بين المسلمين. وذُكر النصح في كتاب الله في عدد من الآيات معظمها على لسان أنبياء الله عليهم السلام الذين هم أنصح الخلق وأخلصهم، والذين بذلوا جهدهم في نصح أقوامهم فاستجاب لهم قلة وخالفهم الأكثرون، وقد كان منهج الرسل مع أممهم مبنيا على النصح لهم والشفقة عليهم، قال نوح عليه السلام مخاطبا قومه: (أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون)، _الأعراف 62_، وقال تعالى على لسان صالح لقومه: (يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) _الأعراف: 79_، وقال هود: (أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين) _الأعراف: 68_. والنصيحة دعامة من دعامات الإسلام، قال تعالى: (والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) _العصر_. مكانة النصيحة ومكانة النصيحة في الدين عظيمة، ومنزلتها عند الله عالية رفيعة، وحاجة كل إنسان للنصح لا تقل عن حاجته إلى الطعام والشراب والهواء، لذلك حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الدين فيها فقال: (الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). ولهذا يعدُّ العلماء هذا الحديث من جملة الأحاديث التي تجمع أمر الإسلام، فقال الخطابي، معنى الحديث قوام الدين وعماده النصيحة، فبها يبقى الدين قائماً في الأمة، وبِعدمها يدخل النقص في جميع شؤونها. والنصيحة كلمة يعبَّر بها عن إرادة الخير للمنصوح له، ولها خمسة أنواع، الأول النصيحة لله، وتكون بالاعتراف بوحدانيته وتفرده بصفات الكمال ونعوت الجلال، والقيام بعبوديته ظاهراً وباطناً، والإنابة إليه كل وقت، مع التوبة والاستغفار الدائم، لأن العبد لابد له من التقصير في شيء من الواجبات والتجرؤ على بعض المحرمات، وبالتوبة والاستغفار يُجبر النقص، ويُسدُّ الخلل. الثاني، النصيحة لكتاب الله، وتكون بحفظه وتدبره، وتعلم ألفاظه ومعانيه، والاجتهاد في العمل به في نفسه وتعليمه غيره. الثالث، النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم: وتكون بالإيمان به ومحبته، وتقديمه على النفس والمال والولد، واتِّباعه في أصول الدين وفروعه، وتقديم قوله على قول كل أحد، والاهتداء بهديه، والنصر لدينه وسنته. الرابع، النصيحة لأئمة المسلمين، وهم جميع من لهم ولاية عامة أو خاصة، وتكون بالسمع والطاعة، وبذل ما يُستطاع في إرشادهم للقيام بواجبهم، وما ينفعهم وينفع الناس. الخامس، النصيحة لعامة المسلمين وتكون بمحبة الخير لهم كما يحب المرء لنفسه، وكراهية الشر لهم كما يكره لنفسه. ولا بد في النصيحة من الإخلاص لله تعالى لأنه لبُّ الأعمال، ولأنها من حق المؤمن على أخيه، فوجب فيها التجرد عن الهوى والأغراض الشخصية والنوايا السيئة التي قد تحبط العمل، وتورِّث الشحناء وفساد ذات البين. ولا بد من الرفق في النصح، وإذا خلت النصيحة من الرفق صارت تعنيفا وتوبيخا لا يُقبل، ومن حُرم الرفقُ فقد حُرم الخيرُ كله، كما أخبر بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام. والحِلم بعد النصح ضرورة، لأن الناصح قد يواجه من يتجرأ عليه أو يرد نصيحته، فعليه أن يتحلى بالحلم، ومن مقتضياته الستر والحياء، وترك الفُحش. الحكمة ومن الحكمة والبصيرة في النصيحة معرفة أقدار الناس، وإنزالهم منازلهم، والترفق مع أهل الفضل، وتخيُّر وقت النصح المناسب، والأسلوب المتزن البعيد عن الانفعالات، وانتقاء الكلم الطيب والوجه البشوش والصدر الرحب، فهو أوقع في النفس وأدعى للقبول وأعظم للأجر عند الله. وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينصح أحد الحاضرين يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا، ما بال أحدكم يفعل كذا). وقال عمر بن الخطاب، لا خير في قوم ليسوا بناصحين ولا خير في قوم لا يحبون الناصحين، وقال الحارث المحاسبي: اعلم أن من نصحك فقد أحبك ومن داهنك فقد غشك ومن لم يقبل نصيحتك فليس بأخ لك، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: إذا نصحت فانصح سراً لا جهراً. وقد يكون النصح بالتعريض والتلميح أبلغ من التصريح، خاصة لمن يفوق في السلطان أو يكبر بالسن، فقد مرَّ الحسن والحسين رضي الله عنهما على شيخ يتوضأ ولا يُحسن الوضوء فاتفقا على أن ينصحاه ويعلماه كيف يتوضأ، طلبا منه أن يحكم بينهما، أَيهما أحسن وضوءا، ثم توضأ كل منهما فإذا بالرجل يرى أنهما يحسنان الوضوء، فعلم أنه هو الذي لا يحسنه، فشكرهما. وقيل: النصح ثقيلٌ فلا تجعلوه جبلا، ولا ترسلوه جدَلا، والحقائق مُرَّة فاستعينوا عليها بخفة البيان. ومن آداب المنصوح، أن يتقبل النصيحة بصدر رحب ودون ضجر أو ضيق أو تكبُّر، ويجب على الناصح أن يخلو من حظ النفس في الغالب وغرضه الإصلاح.