بعد عامين من إطلاق المدينة شرارة الانتفاضة التي أطاحت بحكم العقيد معمر القذافي، أصبحت بنغازي تجسّد ثورة شعبية انحرفت عن مسارها، فخرجت ميليشيات متناحرة وإسلاميون مسلّحون أكثر قوة من الشرطة ما دفع السكان إلى السؤال: أين هي الدولة؟ يقول النّاشط محمد بوجنة: (تخيّل مدينة تسيطر عليها ميليشيات في وقت يتطلّب فيه منك أن تدعّم الدولة، النّاس يشعرون بعدم الأمان، وهم مستاءون كثيرا وغاضبون من ذلك). ووقعت هجمات على دبلوماسيين وبعثات دولية، منها هجوم يوم 11 سبتمبر الماضي الذي أسفر عن مقتل السفير الأمريكي وسط موجة متصاعدة من عمليات خطف وتفجير واغتيالات تستهدف مسؤولي الأمن على وجه الخصوص. ووسط الفوضى والقمامة التي تملأ الشوارع وتهاوي الخدمات البلدية زاد شعور السكان بالإهمال من جانب العاصمة طرابلس البعيدة، ما جدّد المطالب بالحكم الذاتي في منطقة تتركّز فيها أغلب ثروة ليبيا النفطية. وقال مصدر دبلوماسي (الكلّ يشعر بقلق متزايد بشأن شرق ليبيا، الأوضاع تتدهور بشكل خطير). وتحظى استعادة الأمن في ليبيا بالأولوية خاصّة في بنغازي.. مهد ثورة 17 فيفري ضد القذافي، والتي يُنظر إليها الآن باعتبارها معقلا أو قاعدة لانطلاق المتشدّدين الإسلاميين الذين كانوا مقموعين في عهد الزّعيم الرّاحل. وخص وزير الداخلية الليبي عاشور شوايل مسقط رأسه بنغازي بالذكر حين تحدّث في أوائل جانفي عن مشروع ضخم لبناء قوة شرطة فعّالة، وقال إن الأمن يتحسّن والهجمات تتراجع مشيرا إلى أن الأوضاع لم تعد بالسوء الذي كانت عليه. والآن وبعد مرور بضعة آسابيع فقط يجري بحث فرض حظر تجوّل في المدينة المطلّة على البحر المتوسط، والتي يقطنها نحو مليون نسمة. وقال ناشط آخر رفض نشر اسمه خوفا على سلامته: و(ليس هناك من يسيطر بالكامل على بنغازي). ويقول المتمرّدون السابقون على حكم القذافي إنه تمّ استيعابهم -ولو بصورة رمزية- في وزارة الداخلية والجيش. لكن فصائل مثل درع ليبيا و17 فيفري وراف اللّه السحاتي تستعرض سلاحا أكثر ممّا تمتلكه الشرطة أو الجيش وتقدّر أعداد أفرادها بالألوف. وقال النّاشط (الكتائب تسيطر على مداخل المدينة والشوارع والبنى التحتية الرئيسية، والشرطة لا تريد تحديها لأنها ببساطة لا تملك القوة البشرية الكافية). وأخرج محتجوّن كتيبة أنصار الشريعة -وهي جماعة إسلامية متشدّدة يقول شهود إن أفرادها كانوا موجودين أثناء الهجوم على البعثة الدبلوماسية الأمريكية- من قاعدتها بعد احتشاد بعنوان (أنقذوا بنغازي) نظمه مواطنون غاضبون. ويقول سكان إن الجماعة -التي كانت ذات يوم تحرس مستشفى والتي نفت اشتراكها في الهجوم- لا تظهر على الساحة كثيرا منذ ذلك الحين. لكن محلّلين ونشطاء يقولون إن الجماعات الإسلامية المتشدّدة تشحذ قوتها على الأرض، وتعترف الشرطة بأنها كثيرا ما تكون بلا حول ولا قوة وكثيرا ما تستهدف بهجمات. وقال قائد قسم شرطة في وسط المدينة (ليس لدينا سوى المسدسات والبنادق وهم لديهم دبابات وأسلحة ثقيلة)، واضاف (نريد أن نقوم بعملنا، لكن بعض ضبّاط الشرطة يشعرون بالخوف). وحتى إذا نفّذت قوات الأمن اعتقالات فإن ما يتلوها من هجمات تثبط عزيمة ممثّلي الادّعاء، ومازال محقّق بالشرطة مفقودا منذ خطفه في أوائل جانفي. وتنصب أعمال العنف أساسا على قوات الأمن وربما كان بعضها انتقاما من جانب سجناء سابقين أو متشدّدين يريدون إبراز نفوذهم، لكن في غياب جيش وشرطة يعملان بكفاءة لا تملك السلطات قوة تذكر لمواجهة المشتبه فيهم. هذه ليست هي الصورة التي يريدها أهل بنغازي لمدينتهم، وهم يقرّون بأن الحياة تعطّلت بأعمال العنف والاضطرابات، إضافة إلى مطالبتهم بالحكم الذاتي أو ضخّ استثمارات في المدينة التي تبعد ألف كيلومتر إلى الغرب من طرابلس. وإلى جانب المشكلات الأمنية تعاني بنغازي من فشل الحكومة في الوفاء بمطالب السكان الذين يتزايد إحباطهم منذ أن غادر زعماء المعارضة السابقون قاعدتهم الشرقية إلى طرابلس في اكتوبر 2011. وبعد أن كانت بنغازي مركزا للمطالبة بالحكم الذاتي وكانت وراء محاولات سابق للإطاحة بالقذافي أصبحت الآن محور شعور واسع النطاق بتجاهل السلطة الجديدة في طرابلس للشرق. ويشير سكان بنغازي إلى الشوارع التي تتناثر فيها القمامة والطرق غير الممهّدة والمستشفيات والمدارس التي تحتاج إلى الأساسيات. وافتتحت متاجر جديدة واستؤنفت أعمال البناء، لكنهم يريدون المزيد. والمسألة الأكبر هي ماذا سيكون وضع بنغازي في ليبيا الجديدة؟ وكم ستكون حصّتها من إمدادات النّفط الليبية البالغة 1.6 مليون برميل يوميا أغلبها يأتي من الشرق؟ وأدّى الاستياء إلى دعوات للعودة إلى هيكل سياسي فيدرالي. وعلى مدى عشر سنوات تقريبا بعد استقلال ليبيا عام 1951 كانت البلاد تدار بنظام فيدرالي يعطي سلطات لمناطق الشرق والغرب والجنوب. وكانت بنغازي العاصمة التجارية لليبيا وكان الشرق يفتخر بأنه مسقط رأس عائلة الملك إدريس، وبدأت ليبيا تتّجه إلى المركزية في أواخر عهد الملكية. وسرَّع القذافي بهذه العملية بعد انقلابه عام 1969 وركّز سلطة الدولة في طرابلس مهملا بنغازي. وتقيم قلّة من الغربيين في بنغازي التي تحمّلت عبء موجة عنف استهدفت دبلوماسيين وهيئات دولية بما في ذلك قتل السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز وهجوم مسلّح على سيّارة قنصل إيطاليا في جانفي. وطالبت بريطانيا مواطنيها في الآونة الأخيرة بمغادرة بنغازي فورا بسبب خطر (محدّد ووشيك) على الغربيين، ممّا ألقى الضوء على الافتقار إلى الأمن في المدينة. وجذب الهجوم على البعثة الأمريكية الذي لم يقبض على أحد بعده اهتمام العالم، لكن كانت هناك هجمات كذلك على ممتلكات بريطانية وأخرى تخص الصليب الأحمر والأمم المتّحدة. وقبل عامين.. كانت الانتفاضة ضد القذافي تحظى بأقوى تأييد لها في بنغازي، أمّا اليوم فيسود شعور مختلف تماما. يقول أحد سكان المدينة ويعمل في قطاع النفط (أغلب السكان هنا يقولون إنهم غير سعداء بالمرّة، بعضهم يقول إن حالهم أصبح أسوأ ممّا كان عليه من قبل). يريد سكان بنغازي أن تعود مدينتهم عاصمة اقتصادية للبلاد، وأن تعود مؤسسات مثل المؤسسة الوطنية الليبية للنفط التي تأسست في بنغازي ونقلها القذافي إلى طرابلس إلى المدينة، وأعطوا الحكومة مهلة حتى 15 فيفري لاتّخاذ قرار. وأشار يوسف الغرياني رئيس اتحاد عمال النفط والغاز إلى تعهّد الساسة بتنفيذ الكثير، لكنه قال إن شيئا لم يتغيّر (والشعب يقول إنه سيقوم بثورة أخرى).