بقلم: الدكتور شاكر النابلسي -1- كان الإسلام حركة تغيير كبرى في تاريخ البشرية، فما أجدرنا هذه الأيام بقراءة هذا التاريخ بعناية، وتأمّل، وتدبر، لا بالحفظ، والغرغرة، والترديد فقط كالببغاوات، حتى نستطيع تلمُّس الطريق إلى التغيير الآن، والذي نحن في أشد الحاجة إليه. فالتغيير هو التجديد في الحياة، وما أحوجنا إلى اكتشاف الإسلام من جديد، فقد غاب عنا الإسلام، حين غبنا عنه خلال القرون الطوال، وفي الإسلام، دلائل كثيرة تحثُّ على التغيير والتجديد، باعتبار أن الإسلام كان- في حد ذاته- رسالة تغيير وتجديد حضارية شاملة، وقد تجلت عظمة هذه الحركة وضخامتها في شموليتها وتغطياتها لمختلف نواحي الحياة الإنسانية. ومن خلال الجوانب التالية، يتبين لنا ضخامة حركة التغيير الإسلامي: 1- في الجانب الديني، كان الإسلام حركة تغييرية كبيرة، حين نقل المجتمع العربي والمجتمع الإنساني فيما بعد من مجتمعات الشرك إلى مجتمعات التوحيد، ومن مجتمعات الأصنام والأوثان في الأرض إلى مجتمعات عبادة إله واحد أحد في السماء، وقام بما قامت به الأديان الأخرى، من صدام ديني عنيف مع المؤسسات الدينية الوثنية، التي كانت مسيطرة على المجتمعات قبل ظهور الأديان السماوية، وقد تبع هذا التغيير العقائدي الديني تغيرات كثيرة في مجالات مختلفة. 2- في الجانب الاقتصادي، قام الإسلام بحركة تغيير كاملة لاقتصاد المجتمع الوثني والصنمي، ونقل هذا المجتمع من اقتصاد الربا، والاحتكار، والتلاعب بالأسعار والموازين، إلى اقتصاد القرض الحسن، والبيع والشراء بالقسطاس (النصيب بالعدل) والميزان و(أقيموا الوزن بالقسط) (الرحمن: 9)، وكذلك (وزنوا بالقسطاس المستقيم) (الإسراء: 35). كما أقام الإسلام نظام ميراث المجتمع التوحيدي، الذي لم يكن قائماً في المجتمع الوثني، ونظّم الإسلام التجارة، وعقودها، واتفاقياتها بنظام خاص، وخصّها بخمس عشرة آية، كما خصَّ كيفية إدارة المال بثمانٍ وخمسين آية، والقروض بثلاث عشرة آية، وهذا كله ما جمعه الفقهاء بعد ذلك، وخرجوا به إلى النظام الاقتصادي في الإسلام. ولعل كتباً ككتاب عبدالعزيز الدوري (مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي) 1982، وكتاب غازي عناية، (أصول المالية العامة الإسلامية) 1993، وكتاب عبدالهادي النجار (الإسلام والاقتصاد) 1983، وكتاب الحبيب الجنحاني، (التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الإسلام) 1984، وكتاب منير البياتي، (النظم الإسلامية) 1994، وغيرها من الكتب، التي تعطينا المزيد من تفاصيل النظام الاقتصادي في الإسلام. 3- وفي الجانب الاجتماعي، قام الإسلام بحركة تغييرية شاملة أيضاً، وجاء بقيم اجتماعية جديدة تتناسب ومجتمع التوحيد، وتُلغي معظم القيم الاجتماعية للمجتمع الوثني. فأعطي للمرأة حقوقاً مالية واجتماعية لم تكن موجودة في المجتمع الوثني، وحرّم قتل الأطفال خشية الفقر، أو خشية العار، وحرّم الزواج بأكثر من أربع نساء وعند الضرورة، بل أشار إلى أن اقتناء أربع نساء في وقت واحد مع العدل بينهن، يكاد يكون مستحيلاً. وحرّم كل أنواع النكاح، وأوجهه، التي كانت سائدة في المجتمع الوثني، ولعل كتاباً ككتاب هنري ماسيه (الإسلام) 1988، وكتاب محمد أبو زهرة، (المجتمع الإنساني في ظل الإسلام) 1981، وكتاب مصطفى التواتي،(التعبير الديني عن الصراع الاجتماعي في الإسلام) 1986، وغيرها من الكتب، تعطينا المزيد من التفاصيل عن الحركة التغييرية الاجتماعية، التي قام بها الإسلام. 4- وفي الجانب الأخلاقي، كان للرسالة الإسلامية الباع الأكبر، في الإتيان بحزمة من القيم الأخلاقية الصالحة للمجتمع التوحيدي، مقابل إلغاء معظم القيم الأخلاقية التي كانت موجودة في المجتمع الوثني، والنابعة من طبيعة هذا المجتمع، فحرَّم شرب الخمر، ولعب الميسر، والزنى، ورمي المحصنات، والكذب، والغش... إلخ. 5- وفي الجانب السياسي، جاء الإسلام بمفهوم جديد للدولة، وهي الدولة الفكرية، التي لا مكان لعنصر القومية الممقوتة فيها. فكانت رسالة الإسلام السياسية فريدة في التاريخ السياسي الإنساني، من حيث قيام الدولة على فكرة ومبدأ خاليين من العصبيات العرقية والدينية، وإن كان المسلمون قد حصروا الحكم في قبيلة واحدة، وهي قريش، لقول الرسول الكريم (الأئمة من قريش)، و(الأئمة منا أهل البيت) لمدة تزيد على ستة قرون (632- 1258م) من خلال العهد الراشدي والأموي والعباسي. كما لم يتولَّ الحكم العربي الإسلامي خلال أكثر من ستة قرون غير حاكم عربي مسلم، علماً أن الإمبراطورية الإسلامية كانت تضمُّ عناصر كثيرة وقوميات مختلفة مسلمة وغير عربية وغير قرشية. إلا أن الدولة الإسلامية الأولى (دولة الرسول في المدينةالمنورة) رغم هذا، كانت تضم مسلمين وعرباً غير مسلمين ويهوداً. كما أن الدولة الإسلامية من العهد الراشدي حتى نهاية العهد العباسي الثاني، كانت تضم مسلمين، وذميين، وربما ملحدين، ومن قوميات مختلفة (فرس، وعرب، وأكراد، وهنود.. إلخ) ضمن الإمبراطورية الإسلامية واسعة الأرجاء في ذلك الزمان. -2- ومن ناحية أخرى، جاء الإسلام بقيم سياسية أخرى، لم تكن موجودة في تاريخ النظام السياسي الإنساني من قبل، وهي الخلافة الإلهية، وأن الحاكمية لله الواحد الأحد، وأن الأرض كلها لله، وهو ربها المتصرف في شؤونها، وأن الأمر والتشريع كلها مختصة بالله وحده، وليس لفرد، أو أسرة، أو طبقة، أو شعب، بل لا للنوع البشري كافة شيء من سلطة الأمر والتشريع. ولا يكون الحاكم شرعياً إلا إذا كان رسولاً من الله، أو رجلاً يتبع الرسول فيما جاء به من الشرع والقانون من عند ربه كما قال أبو الأعلى المودودي، في كتابه (منهاج الانقلاب الإسلامي)، (ص 17، 18). وأن وحدة الأمة الإسلامية مشروطة بصلاحية نفوس أفرادها، وتلك من سنن الله الكونية، كما قال جودت سعيد، ومحمد البوطي، في كتابهما (التغيير مفهومه وطرائقه)، (ص 109). من ناحية أخرى، كان للرسالة الإسلامية، في الجانب السياسي، شروطها، وقوانينها الجديدة، التي لم تكن موجودة في التراث السياسي الإنساني، ومنها وجوب طاعة أولي الأمر من الحكام، بل شاعت بعض الأحاديث النبوية، في العصر الأموي- والمشكوك في صحتها- التي تعدّت الطاعة المشروطة بالتقوى، والعدل، وإقامة شرع الله، إلى الطاعة العمياء. ومن هذه الأحاديث: (اسمع لحاكمك وأطعه، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك). وكذلك الحديث النبوي الذي يُروى عن الحسن البصري: (لا تعصوا أولي الأمر منكم، فإن عدلوا فلهم الأجر وعليكم الشكر. وإن بغوا فعليهم الوزر، وعليكم الصبر، فهو امتحان من الله يبتلي به من يشاء من عباده، فعليكم أن تتقبلوا امتحان الله بالصبر والأناة، لا بالثورة والغيظ). وكذلك الحديث النبوي الشريف، الذي رواه أحمد بن حنبل عن رواية عبدوس العطاري: (من غلب على المسلمين بالسيف، حتى صار خليفة، وسُمّي أمير المؤمنين، فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، باراً كان أم فاجراً). ولعل كتباً ككتاب محمد خلف الله (القرآن والدولة) 1981، وكتاب محمد أبو فارس (النظام السياسي في الإسلام) 1984، وكتاب عبدالغني عبدالله (نظرية الدولة في الإسلام) 1986، وغيرها من الكتب تدلنا على المزيد من التفاصيل بخصوص النهج السياسي الذي جاء به الإسلام. فهل قرأت الأحزاب الإسلامية الموجودة الآن على الساحة العربية، بعض هذه الكتب، وفهمت ضرورة التغيير؟!