الدستور هو القانون الأعلى في المجتمع السياسي أو هو مجموعة القواعد الأساسية التي يتم وَفقًا لها تنظيم الدولة وممارسة الحكم فيها، وتتميّز هذه القواعد الدستورية عادةً بالدوام والاستقرار. والأصل في الدستور أنَّه يعتبر وثيقةً مكتوبةً يحاط إصدارها بمجموعة من الضوابط التي تضمن انعقاد الإرادة العامة والتعبير السليم عنها، من قبيل موافقة الهيئة التشريعية بأغلبية معيّنة على هذه الوثيقة، وعرضها على الشعب للتصويت عليها في استفتاء عام. وقد يحدث أن يكون الدستور غير مكتوبٍ من خلال تجميع عددٍ من سوابق الأحكام القضائية والقواعد العرفية كما هو الحال في بريطانيا. وليس ثَمَّة شكّ أن القانون الدستوري يمثِّل النظام السياسي لكل دولة من الدول، وها نحن نرَى الجدل المستمر في مصر حول وضع مسودة للدستور بعد ثورة 25 يناير، وصعود الإسلاميين إلى الحكم، وبروز قضية مدى صلاحية تحويل الشريعة الإسلامية إلى دساتير وقوانين في أشكالها المختلفة، تنظم الحياة السياسية والاجتماعية، والحياة العامة للمجتمعات العربية والإسلامية. ولقد صدر حديثًا كتاب تحت عنوان (أصول التشريع الدستوري في الإسلام) للكاتب إبراهيم النعمة، وفيه يقدِّم صورة متكاملة عن كيفية تحويل الشريعة الإسلامية كأحكام ونصوص، قرآن كريم وحديث نبوي شريف، إلى قوانين ودساتير منظِّمة لمختلف أركان الحياة والتعاملات بين البشر. وعن أهمية الدستور يرى الكاتب أنّ الدستور هو الركن الثالث من أركان الدولة ويوضع بجوار الشعب لأنَّ قواعده ملزِمة للسلطات كلها وهو حجر الأساس في نظام الدولة. أما عن سبب اختياره لدراسة هذا الموضوع فبيَّن الكاتب أنهما سببان: الأول: أنه سمع الهتاف الذي كان يجوب الآفاق، وتنطلق به حناجر دعاة الإسلام في كل مكان: (القرآن دستورنا)، فكان يقول في نفسه: كيف يمكن أن يكون القرآن دستورًا للدول الإسلامية كلها وهي مختلفة في اتجاهاتها السياسية والاقتصادية؟ ثم تبيّن له فيما بعد أن هذا الدين جاء بمبادئ عامة، منها ما يتسم بالثبات، ومنها ما يتغير بتغير المكان والزمان، وأدرك أنَّ القرآن الكريم يجب أن يكون دستور المسلمين في كل مكان، لأن الله أمر بذلك وكذلك نبيُّه الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن في نصوص القرآن مرونة تصلح لإسعاد الناس السعادة المثلى. والثاني: أن في الفقه الإسلامي مبادئ دستورية تفوق غيرها من المبادئ الدستورية، وهذا ما صرح به رجال القانون من غير المسلمين فضلًا عن المسلمين. وجاء الكتاب في فصلٍ تمهيدي، وثلاثة أبواب، جاءت في تسعة فصول، تناول الباب الأول مصادر التشريع الدستوري في الإسلام، وعلى رأسها القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع، أما الباب الثاني فتناول الحريات والحقوق في التشريع الدستوري في الإسلام، فيما تناول الباب الثالث السلطات الدستورية الثلاث وقضية الفصل بينها. ويرد الكتاب على الكثير من الشبهات التي يثيرها أعداء المشروع الإسلامي حول صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق وتغطية كل متطلبات تنظيم حياة الناس في المجتمعات المختلفة. الشريعة والدستور ينطلق الكتاب من حقيقة مفادها أن الشريعة الإسلامية بأحكامها ونصوصها تتناسب مع كل الأزمنة، وهي ليست -كما يدعي البعض- قاصرة على دولة النبوة والخلافة الراشدة من بعد الرسول الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل إن الشريعة الإسلاميَّة هي الدستور الأشمل والأعم. ويقدم الكاتب مجموعة من التعريفات والرؤى المرتبطة بقضية الدستور والتشريع في المجتمعات الإنسانية بشكل عام، كما يتناول الرؤى والأُطُر التي جاءت بها الشريعة الإسلامية في هذا الاتجاه، أي: قواعد التشريع القانوني والدستوري في الشريعة الإسلامية بشكل خاص. ويقصد بالشريعة في الاصطلاح: ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها الأنبياء صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلَّم. أما الدستور فيَعني: القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها، ومدى سلطتها على الأفراد، وحقوق كل من الطرفين على الآخر. كما يميز بين أنواع الدساتير المختلفة، من حيث تدوينها، فيميز الكاتب بين الدستور المكتوب والعرف الدستوري، والذي هو العادات التي درجت عليها الحكومات بالتوافق فيما بين هيئاتها المختلفة، كما يميز بين أنواع الدساتير المختلفة من حيث إمكانية تعديلها، فيشير إلى وجود دساتير مرنة في عملية تعديلها، وأخرى جامدة تتضمن بنودًا تجعل من الصعب تعديلها في الظروف العادية. وتملك الدساتير سطوة كبيرة على المجتمعات الإنسانية، فهي التي تحدد بدقة شكل الدولة ووظائفها وحقوقها وواجباتها، وكذلك شكل علاقاتها مع الأفراد، وترتيب وتنظيم علاقات الأفراد مع بعضهم البعض، أو بعبارة أخرى: الدستور هو الإطار الذي تسير بمقتضاه الشؤون الداخليَّة والخارجيَّة الخاصة بالدولة. وهناك عدد من الطرق لوضع الدستور، منها: أن يتم ذلك من خلال لجنة تأسيسية منتخبة، وفيها ينتخب الشعب ممثلين عنه من أجل القيام بكتابة الدستور، وهناك أيضًا الاستفتاء الدستوري، حيث تقوم جهة ما -إما جمعية نيابية يقوم الشعب بانتخابها أو لجنة حكومية أو حتى الرئيس أو الحاكم نفسه- بوضع مدونة أو مسودة للدستور، ثم يتم طرحها على الاستفتاء الشعبي. ومهما اختلفت طرق كتابة الدستور فإنه لا يتم العمل بالدستور إلا بعد موافقة الشعب عليه. أما القانون، فهو أقل مرتبة من الدستور في الهرم التشريعي، والقانون -وَفقًا لعلم التشريع- هو مجموعة القواعد التي تميز وتحدد حدود العلاقات التبادلية بين الناس والمؤسسات الرسمية، وكذلك العلاقة التبادلية بين الفرد والمجتمع والدولة، كذلك العقوبات التي تُفرض على من لا يلتزم بهذه القواعد. وبشكل عام، فلا بد ألَّا يتعارض القانون مع الدستور وقواعده، وإلا أصبح غير شرعي (غير دستوري). تقنين الشريعة ثم بين الكاتب كيفية (تقنين ودسترة) الشريعة الإسلامية، أي: كتابة الدساتير والقوانين المختلفة من النصوص المقدسة التي نزلت بها الشريعة الإسلامية. ويؤكد الكاتب من خلال أبواب كتابه المختلفة على فكرة أن الشريعة الإسلامية صالحة لإنتاج قوانين تتناسب مع كل المجالات، وتتلاءم مع العصر الحالي ومع كل عصر، على عكس ما يدعيه البعض في هذه المرحلة، خصوصًا في أعقاب صعود التيار الإسلامي بعد ربيع الثورات العربية. وينطلق مبدئيًّا من العديد من الآيات القرآنية الكريمة والنصوص قطعية الثبوت التي تؤكد ذلك، والتي يُعَدُّ الإيمان بها وبما اشتملت عليه من صميم إيمان المسلم وصحة عقيدته، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}. وقد وردت في القرآن الكريم في أكثر من موضع، وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ من ربِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرينَ}. بل إن تطبيق الشريعة وتحكيمها واستلهام أحكامها في (التقنين والدسترة) يصل إلى مستوى الفريضة الشرعية، ويتضح ذلك من خلال بعض الآيات القرآنية منها قوله عز وجل في سورة الكهف في الآية (2): {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}. وغير ذلك من الآيات. وعلى مستوى التجربة العملية، فقد شهدت بعض بلدان العالم العربي والإسلامي في الكثير من فتراتها عددًا من الحالات الناجحة التي إما تم فيها وضع دساتير وقوانين من خلال الشريعة الإسلامية، كما في باكستان والسعودية، أو حاولت ذلك، كما في مصر في نهاية عقد السبعينيات الماضي. وفي تجربة مصر، عندما طرح بعض رموز التيار الإسلامي الوسطي والأزهر الشريف في عام 1978م مشروعًا لإعادة كتابة الدستور المصري وَفقَ أحكام الشريعة الإسلاميَّة، و(شرعنة) منظومة القوانين المدنيَّة المصرية، لم يجد هؤلاء الكثير من العنت في ذلك، وتقوم الآن في مصر لجنة المِائة أو الجمعية التأسيسية بمحاولة وضع دستور منبثق عن الشريعة الإسلامية. ويعود ذلك إلى أن الشريعة الإسلامية بطبيعتها تحتوي على كل ما يمكن أن يضبط واقع حركة المجتمعات من قوانين بالتعريف المدني السابق للقانون. ولقد أثبت الكاتب ذلك، فهو في مختلف أبواب الكتاب يقدم مشروعات قوانين وتشريعات دستورية وقانونية في مختلف المجالات مستمدة من الشريعة الإسلامية، فلم يجد ثغرة يحتاج إلى سدها بالقوانين المادية العادية، بما في ذلك الأمور المهمة، مثل حقوق الإنسان الأساسية، كحرية الرأي والتنقل والتعليم وما إلى ذلك. ومن ذلك أيضًا حرية العقيدة لغير المسلمين من أهل الكتاب، إعمالاً لمبدأ (لا إكراه في الدين)، وكفالة المساواة بين مختلف أطياف المجتمع، بما في ذلك غير المسلمين، ومساواتهم بالمسلمين في الحقوق والواجبات إعمالاً لمبدأ (لهم ما لنا وعليهم ما علينا)، أو مبدأ (المواطنة) الذي يتنادى به الجميع في هذه الفترة. كما أوضح الكاتب أن الشريعة الإسلامية تحتوي بين جنباتها على تنظيم كامل للدولة وشكلها، فأتى بالنصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، التي توضح تنظيم الشريعة للسلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية، وأشكال التعاون فيما بينها، في إطار مبدأ الفصل بين السلطات، والذي يُعتبر من أهم أشكال ممارسة الديمقراطية في المجتمعات الإنسانية المتقدمة. السلطة القضائية وعند الحديث عن السلطة القضائية، فإنه يركز على مجموعة من المفاهيم التي توضح مستوى الممارسة السياسية المتطورة في دولة الشريعة الإسلامية، فهو قبل أن يتكلم عن تنظيم السلطة القضائية في دولة الإسلام، يؤكد معاني المساواة الموجودة في الشريعة، وكيف أن شريعة الله تعالى تضمن المساواة والعدالة أكثر من غيرها من الشرائع، بل لا مجال للمقارنة أصلًا. والمساواة هنا -كما يؤكد الكاتب- تُعد شاملة، بَدءًا من المساواة في القيمة الإنسانية، بما في ذلك المساواة بين المسلم وغير المسلم، ثم المساواة في الوظيفة العامة، وفي التعامل أمام أجهزة الدولة، وغير ذلك من أشكال المساواة. كما تناول في هذا الإطار الشورى في الإسلام، وكيف يتم انتخاب الحاكم، وما هي حقوقه وواجباته. ومن خلال النصوص التي أوردها الكاتب في هذا الإطار، فإننا نرى أن دولة الشريعة بريئة من الكثير من الممارسات التي تقوم بها بعض الأنظمة الديكتاتورية في الوقت الراهن، والتي قد تحكم باسم الدين، وتجعل من دولة الشريعة دولة دينية ثيوقراطية، وهو ما لا أصل له في الإسلام.