أول "إنجاز" في صرح المجتمع الجديد المسجد أساس بناء الأمة المسلمة ليست الأمة الإسلامية جماعة من الناس همها أن تعيش بأي أسلوب، أو تخط طريقها في الحياة إلى أي وجهة، وما دامت تجد القوت واللذة فقد أراحت واستراحت. كلا كلا، فالمسلمون أصحاب عقيدة تحدد صلتهم بالله، وتوضح نظرتهم إلى الحياة، وتنظم شؤونهم في الداخل على أنحاء خاصة، وتسوق صلاتهم بالخارج إلى غايات معينة... ومن هنا شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مستقرة بالمدينة بوضع الدعائم التي لا بد منها لقيام رسالته، وتبيين معالمها.. فكان بناء المسجد أول ما بدئ به لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين، وتنقي القلب من أدران الأرض، ودسائس الحياة الدنيا. ولا غرو ولا عجب أن يكون المسجد هو أول بناء في صرح المجتمع الجديد، فإن إقامة المسجد أول وأهم ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي، ذلك أن المجتمع الإسلامي إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه. إن من نظام الإسلام وآدابه شيوع آصرة الأخوة والمحبة بين المسلمين، ولكن شيوع هذه الآصرة لا يتم إلا في المسجد، فما لم يتلاق المسلمون يوميا، على مرات متعددة في بيت من بيوت الله، وقد تساقطت عما بينهم فوارق الجاه والمال والاعتبار، لا يمكن لروح التآلف والتآخي أن تؤلف بينهم. إن من نظام الإسلام وآدابه أن تشيع روح المساواة والعدل فيما بين المسلمين في مختلف شؤونهم وأحوالهم، ولكن شيوع هذه الروح لا يمكن أن يتم ما لم يتلاق المسلمون كل يوم صفا واحدا بين يدي الله عز وجل، وقد و قفوا على صعيد مشترك من العبودية، وتعلقت قلوبهم بربهم الواحد جل جلاله، ومهما انصرف كل مسلم إلى بيته يعبد الله ويركع له ويسجد دون وجود ظاهرة الاشتراك والاجتماع في العبادة، فإن معنى العدالة والمساواة لن يتغلب في المجتمع على معاني الأثرة والتعالي والأنانية. وإن من نظام الإسلام وآدابه، أن ينصهر أشتات المسلمين في بوتقة من الوحدة الراسخة يجمعهم عليها حبل الله الذي هو حكمه وشرعه، ولكن ما لم تقم في أنحاء المجتمع مساجد يجتمع فيها المسلمون على تعلم حكم الله وشريعته ليتمسكوا بها عن معرفة وعلم، فإن وحدتهم تؤول إلى أشتات، وسرعان ما تفرقهم عن بعضهم الأهواء والشهوات. فمن أجل تحقيق هذه المعاني كلها في مجتمع المسلمين ودولتهم الجديدة، أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل كل شيء فبادر إلى بناء المسجد. وتم المسجد في حدود البساطة، فراشه الرمال والحصباء، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، وربما أمطرت السماء فأوحلت أرضه، وقد تفلت الكلاب إليه فتغدو وتروح. هذا البناء المتواضع الساذج، هو الذي ربّى ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة وملوك الدار الآخرة. في هذا المسجد أذن الرحمن لنبيٍّ يؤم بالقرآن خيرة من آمن به، أن يتعهدهم بأدب السماء من غبش الفجر إلى غسق الليل. إن مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي، تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي فهو ساحة للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، ومركزا للقيادة، وقد ارتبطت بفريضة الصلاة وصفوفها أخلاق وتقاليد هي لباب الإسلام، لكن الناس لما أعياهم بناء النفوس على الأخلاق الجليلة استعاضوا عن ذلك ببناء المساجد السامقة، تضم مصلين أقزاما!! أما الأسلاف الكبار فقد انصرفوا عن زخرفة المساجد وتشييدها إلى تزكية أنفسهم وتقويمها، فكانوا أمثلة صحيحة للإسلام. والمسجد الذي وجه الرسول صلى الله عليه وسلم همته إلى بنائه قبل أي عمل آخر بالمدينة، ليس أرضا تحتكر العبادة فوقها؛ فالأرض كلها مسجد، والمسلم لا يتقيد في عبادته بمكان. إنما هو رمز لما يكترث له الإسلام أعظم اكتراث، ويتشبث به أشد تشبث؛ وهو وصل العباد بربهم وصلا يتجدد مع الزمن، ويتكرر مع آناء الليل والنهار، فلا قيمة لحضارة تذهل عن الإله الواحد، وتجهل اليوم الآخر، وتخلط المعروف بالمنكر!. ما أحوج أمتنا اليوم أن تعود إلى مساجدها، وما أحوج مساجدنا أن تعود إلى القيام بالدور الذي كانت عليه إبان عهد خير البشر، فرسالة المسجد هي رسالة الإسلام فيه تتمحور ومنه للآفاق تنطلق. أما الذين منعوا مساجد الله عن أداء دورها ووقفوا مهمتها على مجرد إقامة الصلوات ثم تغلق بعد هذا ومنعوا دروس العلم واجتماع طلبته فيها...فهؤلاء في الحقيقة محاربون للدين ومبغضون لرسالة الإسلام أو جاهلون بدور المسجد في هذا الدين وإن ادعوا أنهم من أهله. عن كتابي فقه السيرة (الغزالي البوطي)