لا يزال الشعر الذي انبثق على أثر حرب التحرير في الجزائر شبه مجهول في فرنسا مقارنةً بالاهتمام الوافي الذي ناله شعر المقاومة (للاحتلال النازي). وهذا ما دفع مؤخرا دار نشر (لوتان دي سوريز) الباريسية لإصدار أنطولوجيا مهمة بعنوان (الشعراء وحرب الجزائر) أعدها الشاعر فرانسيس كومب وضمت مجموعة واسعة من القصائد التي كتبها شعراء فرنسيون وجزائريون حول هذه الحرب. وتجدر الإشارة بداية إلى أن القصائد الفرنسية الأولى التي تناولت موضوع مستعمرات فرنسا ظهرت في القرن التاسع عشر ونظر أصحابها فيها إلى هذه المستعمرات كفضاء استيهامي جديد سمح لهم بتجديد وحيهم. ويجب انتظار بداية القرن العشرين كي يتبلور وعيٌ لدى الشعراء، والكتّاب عموما، بشأن طبيعة الاستعمار السلبية. فبعد فضحهم مجازر الحرب العالمية الأولى وفظائعها، انتقد (الدادائيون) والسورياليون جرائم الجيش الفرنسي في المغرب خلال ما عُرفت (بحرب الريف)، قبل أن تدعو مجموعة أندريه بروتون إلى مقاطعة (المعرض الاستعماري) وتنظّم معرضا مضادا له. وفي ما يتعلق بحرب التحرير الجزائرية، نذكر ب (نداء المائة والواحد والعشرين) مثقفا الذين دافعوا عن حق الجزائريين في التمرد على سلطة الاستعمار، وبدور جان بول سارتر ومجلة (الأزمنة الحديثة)، وبمواقف بعض المثقفين المسيحيين، من دون أن ننسى نشاط )حاملي الحقائب) (شبكة الدعم المباشر لجبهة التحرير الوطنية) أو جرأة الجنود الفرنسيين الذين فضلوا السجن على المشاركة في هذه الحرب. أما الشعراء الفرنسيون فلم يكونوا غائبين عن هذا التحرك التدريجي والمتعدد الأشكال ضد هذه الحرب، كما يتجلى ذلك بقوة في الأنطولوجيا التي نقرأ فيها قصائد لجاك دوبوا وألان غيران ومادلين ريفّو وأراغون وهنري دولوي وفرانك فيناي وغابرييل كوزان، وبرنار مازو، وغييفيك، وبيار سيغيرس، وجان بيرول، وشارل دوبزينسكي، وألان لانس، وأنطوان فيتيز، وإيف بروسار، وهنري ميشونيك وكثيرين غيرهم. ولإعداد هذه الأنطولوجيا، ارتكز كومب على النصوص التي نشرتها للمرة الأولى مجلة لويس أراغون (الآداب الفرنسية) ومجلة (أوروب) ومجلة (أكسيون بويتيك). وفي مقدمته لهذا العمل، يلاحظ كومب أن النضال ضد هذه الحرب شغل بشكل رئيسي شعراء مجلة (أكسيون بويتيك) كتابةً وأيضا من خلال نشاطات أخرى مختلفة كالتظاهر وتوزيع البيانات وكتابة الشعارات على الجدران. ويذكّر في هذا السياق بالعدد الخاص الذي رصدته هذه المجلة للحرب المذكورة عام 1960، وأيضا بالمقالات والقصائد التي نشرتها بانتظام مجلة (الآداب الفرنسية) وبعددها الخاص حول الكاتب الجزائري مولود فرعون ورفاقه الذين اغتالتهم (منظمة الجيش السري) الفرنسية عام 1962. ولا يهمل كومب الأعمال الأدبية المستوحاة من هذه الحرب والتي تركت أثرا بالغا على الأدب الفرنسي، ككتاب جان جينيه (الحُجُب) وكتاب بيار غيوتا (قبر لخمسمائة ألف جندي) و(الرواية غير المنجزة) لأراغون وديوانه (مجنون إلزا) الذي يشكل احتفاء بحضارة الأندلس ومحاولة لإطلاق حوار بين الشرق والغرب. ولدى قراءة الجزء المخصص للشعراء الفرنسيين في هذه الأنطولوجيا، يتبيّن لنا أن ثمة قصائد تمكنت من عبور الزمن من دون أن تفقد شيئا من نضارتها وراهنيتها، وقصائد أخرى أقل نجاحا، لكنها تبقى مهمة في نظرنا من منطلق قيمتها كشهادة على التزام أصحابها بفضح جور المستعمِر. فبعضهم انتقد بقوة عمليات التعذيب مثل المقاومة مادلين ريفّو خلال الحرب العالمية الثانية التي عذّبها النازيون قبل أن تسعى (منظمة الجيش السري) إلى قتلها. والبعض الآخر دافع باكرا عن استقلال الجزائر كالشاعر جاك دوبوا منذ العام 1952. أما الشعراء الجزائريون الحاضرون في الأنطولوجيا فهم: نور الدين أبا وجان عمروش وجمال عمراني ومصوّر بولنوار وأنّي شتاينر ومحمد ديب وأنا غريكي وجان سيناك وكاتب ياسين وهنري كرييا ونور الدين تيفادي وجان بيليغري ومالك حداد وعمر البرناوي ومحمد صالح باوية ومحمد بلقاسم خمّار. ولدى قراءتهم، يتضح لنا أن رهاناتهم اختلفت عن رفاقهم الفرنسيين. إذ لم يكتفوا بفضح عنف المستعمِر وجوره، بل سعوا إلى تأكيد صوت جديد، صوت شعب يدافع عن هويته الخاصة ويطالب باستقلاله، وبالتالي أسسوا لعلاقة جديدة بين الشعب الجزائري ومثقفيه. واللافت أن معظمهم كتبوا قصائدهم باللغة الفرنسية. أما الذين لجؤوا إلى اللغة العربية فعددهم محدود وجميعهم درس في جامعة (الزيتونة) في تونس. وإلى جانب نصوصهم، أدرج كومب قصائد شعبية لشاعرات جزائريات باللهجة الدارجة والأمازيغية بهدف منح القارئ فكرة عن أهمية هذا الشعر وحيويته.