بعد عقود طويلة من الحظر والتهميش، بدأت الأوساط الثقافية الجزائرية تستعيد، ولو باحتشام، خلال السنوات الأخيرة، ذكرى الشاعر الجزائري جان سيناك، الذي تمر هذه الأيام الذكرى ال 39 لمقتله. منذ العام 2003، أُصدرت كُتب ودراسات عدّة تستعيد سيرة وأعمال هذا الشاعر، الذي كان يحلو له أن يلقّب نفسه ب “القاوري (الأوروبي) النزيه"، وتُرجمت أشعاره لأول مرة إلى لغة الضاد، في كتاب بعنوان: “شموس يحيى الوهراني"، بينما خصه السينمائي عبد الكريم بهلول، بفيلم يحمل عنوان “الشمس المغتالة". بذلك سقط تدريجيا ذلك “التابو" الذي امتد لثلث قرن، حيث لم يكن أحد يجرأ على إثارة الملف الشائك لاغتيال هذا الشاعر المشاكس، الذي أُغتيل في ظروف مريبة، بطعنات خنجر مجهول، في قبو معزول كان يتخذ منه مسكنا، في الجزائر العاصمة، بتاريخ 30 أوت 1973. فهل آن الأوان لطرح السؤال أخيرا: من قتل “القاوري النزيه"؟ لعب جان سيناك، دورا بارزا على الساحة الثقافية الجزائرية، منذ منتصف الأربعينيات. وكان قد وُلد في بلدة “بني صاف" قرب وهران، سنة 1926، من أب مجهول وأم إسبانية الأصل. وانتقل للعيش في الجزائر العاصمة، سنة 1943، حيث تطوّع في الجيش الفرنسي لمقاومة النازية. لكن تلك التجربة العسكرية لم تدم طويلا بسبب صحته المعتلّة. زار فرنسا لأول مرة، بعد التحرير، سنة 1946، حيث تعرّف على مثقفي الضفة الباريسية اليسرى، وبالأخص إيمانويل روبلاس وسيمون دي بوفوار، اللذان أصبحا من أصدقائه المقرّبين. لكنه لم يلبث أن عاد إلى الضفة الأخرى للمتوسط، فانخرط في جمعية الكتّاب الجزائريين، سنة 1947، وأسّس في العام الموالي صالونا ثقافيا أسماه “حلقة ليليان للفنون والآداب"، ومن خلاله أصدر مجلة “شمس"، سنة 1952، ثم “سطوح"، سنة 1953، مساهما بذلك في نشر الكتابات الأولى للعديد من الكُتّاب الذي أصحبوا لاحقا أسماءً لامعة في الساحة الثقافية الجزائرية، كمحمد ديب وكاتب ياسين ومولود فرعون ومالك حداد.. مع اندلاع حرب التحرير الجزائرية، استقال جان سيناك من “إذاعة الجزائر" الرسمية (التابعة للسلطات الاستعمارية)، والتحق بصفوف الثورة، حيث أشرف لفترة على إدارة الطبعة السرية لصحيفة “المجاهد"، لسان حال جبهة التحرير. لذا، كان من الطبيعي أن يختار البقاء في الجزائر بعد الاستقلال، حيث أسّس الاتحاد العام للكتاب الجزائريين، وترأسه إلى غاية العام 1967، كما عُُين مستشارا ثقافيا في وزارة التربية، سنة 1963، وعاد في العام ذاته إلى “إذاعة الجزائر"، ليقدّم إلى غاية أشهر قليلة قبل مقتله، برنامجا شهيرا، بعنوان “أشعار على كل الجبهات"، لعب دورا بارزا في التعريف بالأصوات الشعرية الجديدة في جزائر ما بعد الاستقلال. لكن علاقات سيناك ب “جبهة التحرير"، التي أصبحت الحزب الواحد الحاكم في الجزائر، بدأت في التدهور تدريجيا، إثر الانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس بن بلّة، سنة 1965. فبدأت أشعاره تتخذ منحى نقديا تجاه النظام الحاكم (رأيت هذا البلد يتفكّك" قبل أن يكتمل بناؤه" ويتحوّل بلدا للأشباح" والموتى الأحياء" لم أعد أعرف “هذا المستنقع الضخم" ما هو؟) مع مطلع السبعينيات، وإثر صعود التيارات الدينية المتحالفة مع الأجنحة اليمينية داخل النظام الجزائري، صارت مواقف سيناك اليسارية ومثليته الجنسية تثيران نقمة السلطات. لكنه أصرّ في أشعار مرحلته الأخيرة على إدانة ذلك الانحراف اليميني، معتبرا إياه خيانة لشهداء ثورة التحرير (لا، يا أخي “لم يعد الأمر يتعلق بجلاد استعماري" إنه نابالم برجوازيتنا" برجوازية الطفيليين" والمناضلين الذين لا قاعدة شعبية لهم" أيها الرفاق، هاهي الزبالة تغمر دماءنا" هاهو الفساد والإجرام" وهاهم أعداء الثورة يستسيغون دماء بن مهيدي" مثل الكوكاكولا!) وفي مطلع العام 1972، أطلق وزير الثقافة والإعلام، أحمد طالب الإبراهيمي، الذي سيحاول لاحقا، خلال سنوات التسعينات، تأسيس حزب أصولي إسلامي، “حملة أخلاقية" من أجل محاربة المثلية الجنسية. الشيء الذي حذا بجان سيناك إلى المجاهرة بمثليته في برنامجه الإذاعي، قائلا في قصيدة شهيرة: “هذا الجسم المسكين “يريد هو الآخر ثورته التحريرية..." وعلى الفور، أُصدر أمرا وزاريا بحظر برنامج سيناك الإذاعي وإقالته من منصبه كمستشار في وزارة التربية. لكن ذلك لم يزد مواقفه سوى راديكالية، حيث علّق على حملة محاربة المثلية الجنسية ساخرا: “لو مضينا بهذا المنطق إلى الآخر، سيتوجب علينا تغيير أسماء نصف شوارع الجزائر! (في إشارة إلى أسماء شهداء حرب التحرير الذين سُمّيت بأسمائهم شوارع المدن الجزائرية، والذين لمّح سيناك بأن بعضهم كان مثليا جنسيا). كانت تلك التصريحات بمثابة قطيعة نهائية بين سيناك والنظام الحاكم، فمُنع ظهوره في وسائل الإعلام الرسمية، وفُرض عليه تعتيم سياسي كامل، إلى غاية مقتله في ظروف مريبة (راجع الكادر أدناه). وقد كان واضحا للجميع أن وراء الجريمة مؤامرة سياسية. لكن أحدا حتى بين أقران جان سيناك وتلامذته من الكُتاب الجزائريين لم يجرأ، منذ تسعة وثلاثين سنة، على المطالبة بإعادة فتح التحقيق من أجل كشف الحقيقة الكاملة حول خلفيات هذه الجريمة. حانت ساعتكم كي تقتلوا فيَّ حرّيتكم.. قبل أشهر من مقتله، استشرف جان سيناك النهاية المأساوية القادمة، وأسر إلى العديد من رفاقه الكُتاب، خلال أشهر عزلته الطويلة، بعد الحصار الإعلامي والسياسي الذي فُرض عليه، إثر حظر برنامجه الإذاعي “أشعار على كل الجبهات"، قائلا: “سترون كيف سيقتلونني، ثم سيحاولون تلبيس ذلك في صيغة جريمة حق عام". وبالفعل، بعد اكتشاف جثة الشاعر مطعونا في القبو الذي كان يتّخذ منه مسكنا، في شارع إيليزيه ريكلو، بالجزائر العاصمة ، صباح يوم 30 أوت 1973، كتبت صحيفة “المجاهد" الرسمية، التي كان سيناك رئيس تحريرها أيام الثورة: “ألقت مصالح أمن الجزائر العاصمة القبض على شخص يدعى محمد بريج، اعترف بأنه قاتل الشاعر، الفرنسي الأصل، جان سيناك. واعترف القاتل بأن السرقة كانت دافعه لارتكاب الجريمة". لكن مجموعة بارزة من المثقفين الجزائريين، من رفاق سيناك، احتجوا على ذلك الخبر المفبرك والمغرض، وطعنوا في صحته، مشككين بوجود شخص يدعى محمد بريج من الأصل. وفرض هؤلاء على صحيفة “المجاهد" نشر التصويب التالي: “اكتُشفت جثة الشاعر الجزائري جان سيناك في قبوه الكائن في 2 شارع إيليزيه ريكلو، حيث وُجد مطعونا بضربات سكين من مجهول. وحسب ما صرّح به رفقائه من المثقفين والفنانين، فإن الأمر إنما يتعلق بجريمة سياسية. ولا يسع رفاق سيناك سوى التذكير بما كتبه سيناك ذاته، قبل سنوات: إننا يمكن أن نقبل كل شيء، وأن نحب أي شيء، إلا الجريمة.." وفي إحدى آخر قصائده، كتب سيناك أبياتا أشبه بالوصية، قائلا: لقد دنّستم شرف إنسانيتنا، دنّستم صرخة الروح، ونحرتُم إرادة الحياة فينا. وحانت ساعتكم، كي تقتلوا فيَّ حرّيتكم. لكن زهرة القنب البرّية لم تٌُولد إلا لتعود في النهاية إلى تربتها الأم. وستعرفون كم أني أموت موتة متفائلة!