من المواقف الفكرية التي تحتاج إلى بيان ووضوح هو موقف الإسلام من الإبداع، فطالما حاول البعض إنكار الإبداع واعتباره من الكفر البين ولم يفرقوا بين مصطلحين بينهما اتفاق في السجع واختلاف في المعنى والمبنى، فلم يتم التفريق بين الإبداع وبين الابتداع أو بين البدعة في الدين والإبداع في الفكر والصناعة. وانطلق هؤلاء البعض- المتعصب -على تحريم الإسلام لكل إبداع وحتى لكل أفكار مبدعة أو مستجدات متميزة دون التمييز بين الإبداع المخالف للكتاب أو السنة أو الإبداع المحمود في الفكر والعمل والصناعة والعمران. وانطلقوا من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: (إن أصدق الحديث كتاب الله وإن أفضل الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار). وظن البعض أن كل إبداع يظهر في الدنيا سواء كان محمودا أو مذموما قد حرمه الإسلام، فكل جديد يأتي ولم يجد له نص في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو بدعة وهذه البدعة ضلالة نهايتها النار، دون التمعن بالحديث وتفسيره تفسيرا يتواكب مع الإبداع المحمود فأصدق الحديث ما جاء في كتاب الله وإن أفضل الهدي هدي رسول الله لا يعني نفي الصدق والفضل عن ما لم يرد فيهما. ولأجل التوضيح أكثر لابد من التطرق إلى مفهوم الإبداع في الإسلام وعند علماء الاصطلاح. فيقول علماء اللغة بأن الإبداع جاء من بدع الشيء يبدعه بدعا وابتدعه، أنشأه وبدأه واخترعه). ويعرفه علماء الاصطلاح بأنه (إنشاء صنعة جديدة بلا احتذاء واقتداء..). ويقول المفكر الإسلامي د. محمد عماره: (إن الإبداع هو إنشاء الجديد واختراعه غير المسبوق وصناعة ما لا مثال له سواء كان ذلك في صناعة الفكر أم في الصناعات العملية للأشياء)، وفي ذلك فرق بين الإبداع والاختراع في الفكر الإنساني- الذي لم يقل أحد بإغلاق أبواب الإبداع فيه لأنه فكر وصناعة إنسانية- وبين البدعة في الدين الذي هي الضلال لأن الدين وحي الهي وليس ثمرة تفكير وفارق بين العلم الإلهي الذي هو سبب لوجود الموجودات وبين الفكر الإنساني الذي هو مسبب عن هذه الموجودات. وإن علماء المصطلحات يميزون بين الإبداع الفكري وبين البدعة في الدين عندما يعرفون هذه البدعة بأنها (الحدث وابتَدع في الدين بعد الإكمال). لقد اقتضت حكمة الله والفطرة التي فطر الناس عليها بضرورة اتصال الذكر بالأنثى ليتوالد ذرية تعمر الكون وتزرع الأرض وتبدع في الصناعة والفكر والأدب. وإذا كان التجديد سنة من سنن الدين وقرره الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: (يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) فإن التجديد لا يمكن إلا أن يكون ثمرة للإبداع وكذلك إذا كان الاجتهاد فريضة لتزويد الشريعة بالعطاء ومواكبة المتغيرات والمستجدات والمحدثات في كل زمان ومكان فإن هذا الاجتهاد الذي يختلف فيه إمام عن إمام ومفتي عن مفتي ومذهب عن مذهب، وعصر عن عصر لابد أن يكون فيه إبداع أو جزء من الإبداع. ومن هذا المنطلق لا بد أن نفرق بين الإبداع في الفكر والصناعة سواء كان ذلك في العلوم أو العمران أو الأدب أو الفن الهادف، وبين البدعة في الدين أي في ثوابته التي اكتملت بختم الوحي والنبوة، وفي البدعة أيضا لابد من التمييز بين البدعة الضالة والبدعة المحمودة. يقول الإمام الشافعي: (البدعة ما أحدث وخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا فهو البدعة الضالة وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئا من ذلك فهو البدعة المحمودة). والبدعة التي هي ضلالة وفي النار ليست الإبداع الجديد الذي يفيد المجتمع ويطور الصناعة أو المواهب المميزة والمحمودة. كما أن السنة النبوية لم تحصر نصا وتفصيلا لكل ما هو محمود ومن ثم فأبواب الإبداع والابتداع للأمور المحمودة كانت وستظل مفتوحة أبدأ، وإن المنهي عنه من البدع هو المخالف لمبادئ الشريعة وأحكام الدين. ولو تتبعنا الأئمة الذين سبقونا لوجدنا منهم المبدعين ومنهم الموهوبين ومنهم المميزين خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أكثر ما يبتدعون فيه هو ما يقربهم إلى الله بسن سنن حسنة يتحصلون عليها الأجر والثواب فها هي بدعة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي ابتدعها عندما جمع الناس على قيام رمضان، وذلك بأداء صلاة التراويح جماعة وبانتظام وهو ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم إلا قليلا، وسماها سيدنا عمر بدعة وقال (نعمت البدعة هذه)، فمن سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها والعكس (من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها)، وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله. وتأسيسا على هذا المنهاج في الفقه الذي يميز - في البدعة الدينية- بين (الضلالة المذمومة) التي تخالف الدين الثابت.. وبين بدعة الهدي المحمودة التي لم تأت بها أحكام الدين، لكنها لا تخالف تلك الأحكام فهي إبداع وابتداع فيما لا يخالف كتابا ولا سنة. يقول د محمد عمارة: تأسيسا على هذا المنهاج في الفقه والنظر أجرى العلماء الأحكام الخمسة (الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، الإباحة) على كل إبداع وابتداع. فالإبداع الواجب: هو في وجوب ابتداع العلوم والاختراعات التي فرضت على الإنسان لعمارة الكون والأرض. والإبداع المحرم: هو ابتداع المحرمات المخالفة لأوامر الشرع ونواهيه. والمندوب والمستحب: هو إبداع ما يلزم لمندوبات ومستحبات الدين والدنيا. والمكروه: هو إبداع وابتداع ما يؤدي إلى المكروه دينيا ودنيويا والمباح هو إبداع وابتداع كل ما يدخل في المباحات من أمور الدين والدنيا. وإذا كان الإبداع حتى في الإطار الديني مفتوحة أمامه الأبواب فيما لا يخالف مبادئ الدين وأحكام الشريعة فمن باب أولى يكون الحال في الإبداع في سياسات الدنيا وشؤون العمران.