إِنَّ الْمَكَارِمَ أَخْلاقٌ مُطَهَّرةٌ *** فَالدّينُ أَوَلُّها وَالعَقْلُ ثَانِيهَا. وَالْعِلْمُ ثَالِثُها وَالحْلْمُ رَابِعُها *** وَالْجُودُ خَامِسُها وَالْفَضْلُ سَادِيهَا. وَالْبِرُّ سَابِعُها وَالصَّبْرُ ثَامِنُها *** وَالشُكرُ تاسِعُها وَاللَينُ بَاقِيهَا. وَالنَفسُ تَعلَم أَنّي لا أُصادِقُها *** وَلَسْتُ أَرشُدُ إِلا حِيْنَ أَعْصِيهَا. ما أحوجنا اليوم دون غيره إلى أخلاق الإسلام فنمارسها سلوكاً في الحياة في زمن طغت فيه المادة وضعفت فيه القيم وفهمت على غير مقصدها وغاياتها وتنافس الكثير من أبناء هذه الأمة على الدنيا ودب الصراع بينهم من أجل نعمة زائلة أو لذة عابرة أو هوى متبع... ما أحوجنا إلى أخلاق الإسلام ونحن نرى التقاطع والتدابر والتحاسد على أبسط الأمور وأتفه الأسباب.. ما أحوجنا إلى أخلاق الإسلام ونحن نرى جرأة كثير من الناس على الدماء والأموال والأعراض دون وجه حق أو مصوغ من شرع أو قانون وأصبحت صحف الأخبار والقنوات التلفزيونية والفضائية العالمية لا يتصدر أخبارها في كل يوم إلا أخبار دمائنا المسفوكة وأعداد قتلانا وضحايانا وكوارثنا ومشاكلنا وفي كل أقطارنا ودولنا في عالمنا الإسلامي والعربي الفسيح.. ما أحوجنا إلى الأخلاق الإسلام وتوجيهاته ونحن نرى قطيعة الرحم وضعف البر والصلة وانعدام النصيحة وانتزاع الرحمة والحب والتآلف بين كثير من الأبناء والآباء والجيران والأخوة وبين أفراد المجتمع الواحد.. ما أحوجنا إلى أخلاق الإسلام وتوجيهاته لتستقيم أمورنا وتصلح أحوالنا وتضبط تصرفاتنا ويحسن إسلامنا ويكتمل إيماننا فلا ينفع إيمان أو يقبلُ عمل أو ترفع عبادة بدون أخلاق تحكم السلوك وتوجه التصرفات.. وقد مدح الله - تعالى -رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي اختاره واصطفاه بقوله - سبحانه -: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، ولا يمدح الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بشيء إلا وله مكانة عظيمة عنده - تعالى -... ووصف الله - عز وجل - عباده بقوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) [الفرقان: 63-68]. ولما سُئل الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أي المؤمنين أفضل إيماناً؟ قال - صلى الله عليه وسلم : (أحسنهم أخلاقاً) (الترمذي 1162، أبو داود 4682).. وقد سمى الله الإيمان براً، فقال - تعالى -: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)(البقرة: 177)، والبر اسم جامع لأنواع الخير من الأخلاق والأقوال والأفعال، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( البر حسن الخلق)) (مسلم 2553)... ويظهر الأمر بجلاء في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (مسلم 35). إن أزمتنا اليوم أزمة أخلاق وممارستها على أرض الواقع وتعبد الله بها فالكثير يصلون ويصومون ويقرؤون القرآن ويدّعون الإسلام ويملأون المساجد ثم يخرجون للتقاتل والتنازع والتحاسد فيما بينهم... يقوم الكثير بالشعائر دون خشوع وتدبر ودون استشعار لعظمة الله فتسوء أخلاقهم وسلوكياتهم في البيت والسوق وفي الوظيفة ومع الجيران.. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة)) (الترمذي 2003).. وقد أخبرنا رسول - صلى الله عليه وسلم -: (عن امرأة دخلت النار بسبب حبسها لهرة فماتت من الجوع)، كما يخبرنا في المقابل عن رجل غفر لله له ذنوبه بسبب سقيه لكلب اشتد عليه العطش، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلت امرأةٌ النارَ في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)) (البخاري 3140، مسلم 2619).. وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في هذه البهائم لأجراً؟ فقال: (في كل كبد رطبة أجر)) (البخاري 5663، مسلم 2244).. كل ذلك ليبين ما للأخلاق من أهمية في حياة المسلم وآخرته ومن مكانةً عالية، بلغت بصاحبها أن كان الأقربَ والأحبّ لصاحب الخلُق العظيم نبيّنا محمّد، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((إنّ من أحبِّكم إليّ وأقربِكم منّي مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا)) (رواه البخاري)... وإن المؤمنين ليتفاضلون في الإيمان، وأفضلهم فيه أحسنهم أخلاقاً جاء في الحديث (( ألا أنبئكم بخياركم أحاسنكم أخلاقاً))(صححه الألباني في الصحيحة ح 876 -2/562).... فلا يغتر أحدنا بصلاته أو صيامه أو قراءته للقرآن أو حتى صدقته وحجه لبيت الله الحرام وهو في الجانب الآخر سيء الخلق سيء الأقوال والأفعال بذيء اللسان خبيث النفس فلن تنفعه أعماله حتى يأخذ تعاليم الإسلام وتوجيهاته كاملة ويمارسها بصدق وإخلاص ليكتب له التوفيق والسداد والقبول عند الله... عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، قال: كذلكم البر كذلكم البر!)) _[صحيح. صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني، 3371. ] وكان حارثة بن النعمان من بني مالك بن النجار، وهو ممن شهدوا غزوة بدر، وكان أبرّ الناس بأمه، وكأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نبه أصحابه على سبب نيل تلك الدرجة بقوله: (( كذلكم البر))، أي حارثة نال تلك الدرجة بسبب البر... ) [فيض القدير بشرح الجامع الصغير: 3/637-638. ]. لقد كانت الأخلاق في حياة المسلمين سبب رئيسي لعزتهم وقوتهم ومنعتهم وسعادتهم فعاشوا فيما بينهم حياة يسودها الحب والتعاون والاحترام المتبادل فأسسوا حضارة بهرت العالم ذلك أن أي حضارة لا تقوم إلا على دعامتين: علمية وأخلاقية.. علمية تنتج التطور والازدهار والرقي السياسي والاقتصادي والعلمي والاجتماعي... وأخلاقية ينتج عنها الأمانة والإخلاص والإتقان والشعور بالمسئولية وتقديم النفع وحب الخير فإذا ما ذهبت هاتين الدعامتين أو أحدهما انهارت الحضارات وتفككت المجتمعات وحلّ البلاء بأهلها.. إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.