نشأت الحياة الزوجية منذ الأزمنة الغابرة على التواصل الروحي والشعور الوجداني، وبمرور الزمن أخذت العلاقة الزوجية نوعا من العلاقة المتينة التي لا تقبل الانفصام، مما أدى بتسميتها بالرباط المقدس، وقد احتفظت بهذه الصفة لمدة قرون، وتعززت بعد مجيء الإسلام، أين أعطى الحقوق الواجبة للمرأة وحررها من القيود والتبعية ومن كافة أشكال الاسترقاق والعبودية، وسمحت المفاهيم الجديدة ببلورة نظام اجتماعي يقوم على الاحترام المتبادل بين الزوجين خلال حياتهما الزوجية، وقد أخذ الغرب من هذه المفاهيم ما يمكن أن يتماشى مع عقائدهم وأعرافهم، وأضحت العلاقات الإنسانية تتجه نحو التحرر من كافة القيود البشرية، وحررت الفرد إلى درجة أنه أصبح يتفاعل مع الواقع المحيط به، بكل أفكاره وتصوراته التي يراها مناسبة تسمح له بالتعايش في المحيط الذي يتواجد فيه، لكن اليوم وفي السنوات الخيرة تأثرت المجتمعات بالثورة التكنولوجية، وبالعالم الرقمي، وما تبثه الفضائيات من ثقافات مختلفة، التي ساهمت بشكل أو بآخر في صنع واقع جديد لفرد كان شابا ذكرا أو أنثى.. هذا الزخم الإعلامي والرقمي، وتوجه الإنسانية لتفضيل العصرنة والحداثة للبحث عن أسباب العيش الكريم، نجم عن ذلك تراجع في العادات والتقاليد، بل أصبحت هذه الأخيرة في خبر كان، ولم تعد تلك العلاقات الحميمية بين الزوج وقرينته، تحكمها ما يمكن تسميته بالانسجام الروحي بين الطرفين، بل تشكلت أفكار جديدة بدأت تتبلور في أذهان أفراد المجتمع، مما يجعل هذا الأخير يدخل مرحلة التدحرج الانسيابي فيؤذي العلاقات الإنسانية، حتى وإن اعتبرها البعض خطوات نحو التحرر في التصرف واستقلالية في اتخاذ المواقف الشخصية لكل من الزوجين، ويحاول أحدهما أن يخفي عن الآخر بأن الواقع المحيط بهما ليس له أي متانة من وجهة تلك الأدبيات التي كانت تصنع سعادة الحياة الزوجية، إن نعيش عصرا بدأت تتأسس فيه مفاهيم اجتماعية جديدة تتعارض في جوهرها مع مكنونات المفاهيم والمقومات الأصيلة، وبدأت العادات الجديدة تنتشر بشكل غير متوقع مما يجعل الجيل الجديد يرفض كل ما هو كلاسيكي وتقليدي، والأدهى أن البعض بدأ يجعل من المفاهيم الجديدة مرجعية حديثة لبناء مستقبل حسب ما يراه من أمور تلبي حاجياته اليومية، لكن السؤال الذي يفرض نفسه، هل يمكن أن تستمر الحياة الزوجية بالطريقة التي كانت يوما مصدرا أساسيا للحفاظ على كيان الأسرة والمجتمع معا، هذا في الوقت أن الجميع مجبر على التكيف مع متغيرات العالمية الجديدة. ولا شك أن تحقيق الهدف المنشود من قبل الشريكين في حياتهما الزوجية والمتمثل في بناء أسرة منسجمة ومستقرة، لا يتوقف على رغبتهما في ذلك فقط، بل أن هناك عوامل يجب النظر إليها بعين الدقة والتمعن، قبل الفصل فيها، لينظر فيها إن كانت ملائمة ومناسبة لخلق محيط للتعايش بين طرفين تجمعهما المحبة والتواصل الوحي، ولكن في المقابل قد يحملان أفكارا متناقضة، التي قد تكون سببا في بروز الخلافات الزوجية، ومن بينها نظرة كل واحد منهما إلى طبيعة الحياة التي يراد كل واحد منهما أن تكون، فالزوجة ترفض البقاء بين الجدران الأربعة، وتحاول أن تفرض عالمها الخاص على زوجها، من جهة أنها لا تتنازل عن حقها في العمل، وأيضا أنها لا تقبل أن تعيش حياة لا تتماشى مع أفكارها، حتى إن كان الأمر يتعلق بالميل نحو المظاهر التي قد لا تناسبها، بل لأن الظروف هي التي تقتضي أن تكون كذلك، مثلا قيادة سيارة، الذهاب في جولات سياحية سواء فردية أو جماعية، المشاركة في التظاهرات المختلفة الفنية والموسيقية، حضور حفلات الأصدقاء وزملاء العمل، والقائمة طويلة، وإن كان ذلك على حساب بعض القيم التي كانت بالأمس لها علاقة بجانب المحظورات العائلية، لذا فإن الزوج سوف يجد نفسه حائرا في مواجهة مثل هذه المشكلات العويصة التي قد تنغص حياته اليومية، لا لشيء بل لأن الزوجة تعلم أدبيات التربية وسط أحضان أسرة كانت تحافظ على التقاليد والأعراف، وفي نفس السياق نجد من الأزواج من يحاول هو أيضا أن يعيش تلك الحياة ولو بدور أقل، والحياة الزوجية في عصرنا هذا مبنية على المكنونات المادية والشعور المولع بتقليد الآخرين في كل خطوة، وهو ما يهدد الاستقرار المنشود، ويجعل من دعائم كيان الأسرة تتسم بالهشاشة التي لا يمكن أن تواجه التحديات الواقعية التي تزيد الحياة أكثر تعقيدا. زوال الأسرة بمفهومها الاجتماعي استمرار الأوضاع بالشكل الراهن وفق المتغيرات السريعة التي تشهدها المجتمعات المحافظة، يزيد يقينا، بأن تلك المفاهيم التي كانت تتحكم في كيان ووجود المجتمع، إنها في طريق الزوال، وما يجر معه زوال الأسرة بالمفهوم المسلم به، والذي يشكل العقيدة الاجتماعية في بناء الأسرة، فالحياة الزوجية خارج أبجديات المجتمع المحافظ، يمثل تساهلا مرغوب فيه، ينمي تلك الأفكار التي يحاول بها الجيل الجديد أن يصنع بها عالمه المستقبلي، وأصبحت العلاقات الزوجية المنتشرة تأخذ أبعادا تسير في هذا الاتجاه، كالارتباط الحر، عدم اشتراط حضور الولي أثناء القران، إعطاء الحرية للمرأة في عقد قرانها بعيدا عن كل الضغوطات الاجتماعية، وهو ما فتح المجال للتفكك الأسري من جهة، وإعطاء الانطباع بأن الزواج التقليدي ما هو إلا مجرد تصوري تخلفي لا يتماشى مع متطلبات العصر الحديث، ومن خلال المعطيات الاجتماعية التي بدأت تتكرس عبر سلوكات فردية أو جماعية، لا شك أنها تبدد روابط الحياة الزوجية، وتحوّلها إلى مجرد تلاقي بين شريكين لاهدف لها سوى ما يمكن أن تصنعه الغريزة. التوافق الروحي قبل أي اتفاق مادي مهما تعددت الأفكار والتصورات حول الحياة الزوجية التي يسعى إلى إنشائها كل من الزوج والزوجة خلال فترة الارتباط بينهما، فإن واقع العشرة الزوجية يجب أن يستمد من التوافق الروحي قبل أي اتفاق مادي، فالجانب المعنوي يمثل جانبا أساسيا في بناء العلاقة الزوجية، والقول أن بلورة مفاهيم جديدة لاحتمال تكوين مجتمع جديد تحكمه قيم جديدة تتماشى مع مقتضيات العصر الحديث، لا يجب أن تخرج عن الأبجديات والمقومات المرتبطة بالعادات والتقاليد التي تصنع للمجتمع الجزائري ميزته الأساسية في كيانه وسيماته وحتى في الشخصية المعنوية ذات الطابع الاجتماعي، لذا فإن الأمر يتطلب أن تعمل كل الأطراف الفاعلة على الساحة لحماية المكتسبات والموروثات الاجتماعية التي توارثها الآباء عن الأجداد، وبالتالي السهر على نقلها للأجيال القادمة، لأن ذلك يعتبر من المسؤولية المعنوية للعائلات والأفراد، فالحياة الزوجية ،هي أولا علاقة تتعزز بالتوافق والانسجام بعيدا عن التناقضات في الأفكار، والجنوح نحو خلق أجواء من الاحترام المتبادل والمشاعر الطبيعية التي من أجلها تشكلت الرابطة الزوجية.